«نبض الخليج»
قدّم علم النفس لبقيّة العلوم مصطلحات ومفاهيم كثيرة استفادت منها الأخيرة، وكان مصطلح “تحيّز تجنّب الخسارة” أحد هذه المصطلحات التي قدمها لعلم الاقتصاد السلوكي. يرتبط هذا التحيّز بعلم الاحتمالات بشكل وثيق، وهو يبحث في ميل الأفراد إلى تجنّب الخسارة أكثر من ميلهم لتحقيق الربح، والخوف من خسارة المال أكثر من الرغبة في كسبه. يقوم المبدأ السلوكي على حدس البشر أو إدراكهم الباطني للمحسوسات المادية المتحققة بين أيديهم، مقابل الاحتمالات غير المتحققة والتي يمكن الوصول إليها مستقبلًا من خلال الربح الوارد حصوله من جرّاء المغامرة. يمكن سوق مثال احتفاظ المستثمرين بأسهمهم التي تتعرض لانخفاض القيمة فترةً أطول من المتوقع في مثل هذه الحالات منطقيًا. السبب في ذلك أنّهم لا يشعرون بالخسارة الفعلية ما دامت الأسهم لاتزال بملكيتهم في حين الخسارة لا تزال اسمية غير متحققة فعلًا، ويبقى لديهم أمل عودة الأسهم للتحسّن في المستقبل لتعويض خسارتهم. تشير الإحصائيات أيضًا إلى أنّ المستثمرين كانوا يسارعون إلى بيع أسهمهم التي مازالت تحقق أرباحًا بسيطة مقابل تمسكهم بتلك التي ما فتئت قيمها السوقية تنخفض إلى الحضيض. هذا جوهر المبدأ المسمى “تحيّز تجنّب الخسارة”، والذي ينطبق على كثير من مجالات الحياة ولا ينحصر في فسحة الاقتصاد فقط.
هكذا يمكن تفسير مواقف فئات عديدة من الشعوب عند اندلاع الثورات، فالقيمة الفعلية للاستقرار واضحة ملموسة حتى ولو كانت مبنية على قاعدة هشّة وبأدوات القمع الرهيبة حتى. يفضّل كثيرون الواقع المستقر ويخشون المستقبل الغامض. لكنّ الحياة لا تسير على الدوام بعجلات الأمنيات، حتى لو كانت هذه تصدر عن جماهير واسعة، فضرورات التغيير تنبع أحيانًا من جوهر الأشاء السائدة ذاتها. هكذا يمكن قراءة تردد كثير من المصريين والليبيين والتونسيين واليمنين والسوريين في الالتحاق بركب ثورات بلادهم التي بدأت من تونس قبل خمسة عشر عامًا. ويمكن أيضًا من هذا المنطلق قياس إحجام الحكّام الديكتاتوريين عن إجراء الإصلاحات التي قد يكون من شأنها حفظ حكمهم في النهاية لو تجرّأوا وقاموا بها. إضافة إلى فائض القوّة التي يظنّ المستبدون أنهم يملكونها، نجد في الخلفية الذهنية لديهم الخوف من خسارة ما بين أيديهم رغم التدني المستمر في قيمة أسهم العنف الذي يحتكرونه في عيون الجماهير الثائرة بوجههم، فتراهم يتمسكون بالحلول العنيفة علّها تحفظ لهم ما يظنونه ملكًا خالصًا وجب ألا ينازعهم به أحد.
كذلك يمكن قراءة المشهد الذي يتولّد فيه مناصرون للنظام الجديد مباشرة فور انتصاره، وهؤلاء يأخذون غالبًا دور المدافعين عن النظام البائد فور قيام الثورة ضدّه. يتبادل الطرفان الأدوار لتغيّر المواقع التي يدافعون عنها. كان الثائرون في سوريا بدايات ثورتهم عام 2011 محطّ نبذ فئات من الشعب تحت مسمياتٍ مختلفة منها “كنّا عايشين” أو “أنتم من خرّب البلد” أو “يا درعا شو كان بدنا بهالصرعه”.. إلخ، في حين تراهم الآن في موقع الدفاع عن الإدارة الجديدة التي استلمت زمام الأمور بعد الثامن من كانون الثاني 2024. يمكن الحديث عن فئة وازنة من السوريين تدافع باستماتة الآن عن الإدارة الجديدة. إضافة للدوافع الوطنية البحتة، ينطلق أفراد هذه الفئة أيضًا من مبدأ “وهم التحيّز ضدّ الخسارة”، فترى كثيرًا منهم يتهم كل من ينتقد العهد الجديد بالفلول أو يرميه بحجارة التبعية لأجندات معادية أو حتى الخيانة. هذا السلوك اللاواعي يأتي عفويًا مع الخوف من خسارة النصر الذي تحقق بعد مخاض عسير دفعت هذه الفئات ثمنه وثمن الولادة بعده باهظًا جدًا. هنا يتحكم اللاشعور أو اللاوعي بضرورات الدفاع عن المكتسبات، رغم أنّ المنطق يقول إنّ هؤلاء هم الأولى بانتقاد العهد الجديد كلّما حاد عن مبادئ ثورتهم التي دفعوا ثمنها كلّ نفيس من أرواح وممتلكات. طبعًا لا تعدم هذه الفئة أصواتًا ناقدة وفكرًا متحررًا من قيود هذا التحيّز ضد الخسارة، لكنّ هؤلاء يبقون قلّة ضئيلة تحاصرها الشكوك والاتهامات من كل حدب وصوب. سيكون التفكير النقدي العقلاني البارد محل اتهام من متطرفي هذه الفئة على الدوام. هنا تكمن مأساة القادة السياسيين الذين عليهم الموازنة بين ضرورات القيادة والفعل الإيجابي والتأثير بالأحداث، وبين المدّ الشعبي الهائل الذي يجرف في طريقه كلّ من يعترضه أو يحاول توجيهه نحو الاتجاه الصحيح.
لنقرأ المشهد الآن بطريقة عكسية، فماذا لو لم يثر المصريون ضد التوريث الذي كان يسعى إليه الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك رحمه الله؟ هل يمكن القول إنّ وضعهم الحالي كان من الممكن أن يتحسّن ويصبح أفضل اقتصاديًا مما هو عليه الآن، ولربما كان يمكن القول أيضًا إنّ وضع العرب جميعًا كان سيبقى أفضل بما لا يقاس مما هو راهنٌ حاليًا، فلربما ما كان للحرب الهمجية الإسرائيلية أن تقوم على أهل غزّة لو كان حسني مبارك أو المشير عبد الحليم أبو غزالة رئيسًا لمصر! لا أحد يدري كيف يمكن أن تسير عجلة الأيام، لأنّ هذا مما لا يمكن معرفته بيقين أو حتى بظنٍّ أيضًا. بالمقارنة مع سوريا، هل كان وضع السوريين سيذهب إلى التحسّن مع نظام الحكم البائد لو صبروا ولم يثوروا عليه، هل كان يحوي نظام الأسد المدحور في ثناياه بذور القابلية للإصلاح أساسًا؟ من يصدّق أن نظامًا أعدّ سجونه بأحواض الأسيد ومكابس الجثث وهيّأ مساحاتٍ شاسعةً للمقابر الجماعية وحوّل المشافي والمدارس والملاعب الرياضية لأماكن يمارس فيها الاعتقال والتعذيب والقتل، يمكن أن يتحوّل إلى نظام أقلّ وحشية إن لم نقل إلى نظامٍ ديمقراطي؟ هنا يجب ألا تخوننا الفطنة، فالمكتوب معروفٌ من عنوانه، ولا يمكن ترك الاحتمالات تأخذنا بعيدًا في التفكير. هذا الذي سقط نظامٌ ما كان له أن يستمر إلا بالقوّة المفرطة والعنف الوحشي، وما كان ليسقط إلا بمثلهما أو بمفاعيل النخر الذاتي الذي أكل أسسه وأركانه حتى بات عبئًا على التاريخ وليس فقط على المستفيدين منه داخليًا وعلى حلفائه إقليميًا ودوليًا. هذا الذي رأيناه وعشناه في سوريا طوال عقود من حكم البعث وعائلة الأسد، هو بالذات ما يمكنه أن يشرح من دون تبرير، حجم “وهم التحيّز ضد الخسارة” الذي تعيشه فئة واسعة من السوريين والسوريات وتأثيره المديد خلال سنواتٍ قادمةٍ، نرجو الله ألا تطول.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية