كتب: هاني كمال الدين
في تطور مثير يعكس تصاعد التوترات داخل تحالف أوبك+، خرجت كازاخستان مؤخرًا بتصريحات لافتة على لسان وزير الطاقة الجديد يرلان أككنجينوف، أكدت فيها أن البلاد ستعتمد في تحديد مستويات إنتاجها النفطي على ما تمليه مصالحها الوطنية، لا على الالتزامات التي تفرضها اتفاقيات التحالف النفطي المعروف باسم أوبك+. هذا الإعلان الذي جاء عبر وكالة “رويترز” لم يكن مجرد موقف تقني من دولة منتجة للنفط، بل شكل تهديدًا صريحًا لبنية التحالف وأسس التفاهم الذي يجمع المنتجين منذ سنوات. فهو يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات خروج كازاخستان من أوبك+، ويضع المملكة العربية السعودية، القائد الفعلي للتحالف، أمام تحديات بالغة قد تدفعها إلى شن حرب أسعار نفطية جديدة، تمامًا كما فعلت في سنوات سابقة، حينما قررت الرد على الإخلال بالاتفاقيات بزيادة الإنتاج وإغراق الأسواق بالنفط الرخيص.
هذه الخطوة الكازاخستانية تأتي في وقت حساس يشهد فيه الاقتصاد العالمي هزات متتالية ناتجة عن التوترات التجارية الدولية وعودة الحمائية الاقتصادية، خصوصًا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب. ومع تصاعد هذه التحديات، فإن أي انقسام أو تصدع في تحالف أوبك+ قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الأسواق العالمية وإحداث تقلبات حادة في أسعار النفط التي تعاني أصلًا من هشاشة التوازن بين العرض والطلب.
تحالف أوبك+، الذي تأسس ليكون مظلة تضم كبرى الدول المنتجة للنفط داخل منظمة أوبك وخارجها، وعلى رأسها روسيا، لعب دورًا محوريًا في الحفاظ على أسعار النفط ضمن نطاق مستقر تراوح بين 70 و90 دولارًا للبرميل خلال الأعوام الماضية. إلا أن هذا الاستقرار كان هشًّا، إذ شهدت الاتفاقيات المتكررة داخل التحالف سلسلة من الانتهاكات المتعمدة أو غير المقصودة، سواء من العراق أو الإمارات العربية المتحدة أو غيرها من الأعضاء. لكن التصرفات الأخيرة من جانب كازاخستان وضعت التحالف أمام تحدٍ وجودي، خصوصًا مع الزيادة الكبيرة في إنتاجها النفطي خلال مارس الماضي، حيث وصلت إلى 1.85 مليون برميل يوميًا، مقارنة بمتوسط إنتاج 1.74 مليون برميل في عام 2024، متجاوزة بشكل كبير الحصة المتفق عليها والتي لا تتعدى 1.468 مليون برميل يوميًا بحسب بيانات أوبك.
الزيادة في إنتاج كازاخستان لم تأتِ من فراغ، بل جاءت مدفوعة ببدء الإنتاج الموسع في حقل تنغيز العملاق، أحد أكبر الحقول النفطية في البلاد. ويمثل هذا التصعيد انتهاكًا صريحًا لمبادئ التعاون المشترك داخل أوبك+، بل وإعلانًا غير مباشر عن رفض الالتزام بأطر الاتفاق الجماعي، وهو ما أثار غضب الرياض، التي تعتمد في موازنتها العامة على أسعار نفط تفوق 90 دولارًا للبرميل، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
ومع استمرار كازاخستان في تجاهل القيود المفروضة على الإنتاج، بدأت السعودية، بالتعاون مع بعض المنتجين الآخرين، بتوجيه رسائل تحذيرية واضحة. وفي خطوة مفاجئة، أعلنت المملكة عن تسريع خططها لزيادة إنتاجها في مايو بمقدار 411 ألف برميل يوميًا، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف ما كان مقررًا. كما أقدمت على تخفيض أسعار النفط المصدَّر إلى آسيا إلى أدنى مستوى لها منذ أربعة أشهر، ما شكل ضغطًا إضافيًا على الدول التي تراهن على بيع نفطها في الأسواق الآسيوية ذات الطلب المرتفع.
هذه الإجراءات تُذكّر بسيناريو مشابه لما حدث عام 2014، حينما قررت السعودية خوض حرب أسعار مع منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة، في محاولة للحفاظ على حصتها السوقية وإجبار المنتجين الأعلى تكلفة على الخروج من السوق. وقد أدت تلك الحرب حينها إلى انهيار أسعار النفط وتكبد العديد من الدول المنتجة خسائر جسيمة. واليوم، يبدو أن الرياض تلوّح بإعادة استخدام نفس السلاح في مواجهة كازاخستان والدول الأخرى التي تتجاوز حصصها الإنتاجية.
لكن هذه الحرب، إن اندلعت، فلن تكون سهلة على أحد. فالسعودية، رغم تفوقها في كفاءة الإنتاج وانخفاض كلفة استخراج النفط مقارنة بمعظم الدول الأخرى، تدرك أن إغراق السوق بالنفط الرخيص سيؤدي إلى خسائر فادحة في الإيرادات العامة، ما قد ينعكس سلبًا على مشاريعها الاقتصادية الطموحة وعلى رؤيتها التنموية طويلة المدى. في المقابل، تراهن كازاخستان على الحفاظ على استقرار إنتاجها المرتفع من حقل تنغيز، وهو ما قد يمنحها قدرة على الصمود، ولو مرحليًا، في مواجهة الضغوط القادمة من الرياض.
في سياق متصل، نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر مطلعة أن عدة دول أعضاء في أوبك+ تدرس بالفعل رفع مستوى إنتاجها النفطي في يونيو المقبل، للشهر الثاني على التوالي، في خطوة تعكس تآكل الالتزام الجماعي، وتعزز المخاوف من تحول الخلافات إلى انقسامات بنيوية داخل التحالف. ويعد هذا الوضع محفوفًا بالمخاطر، لا سيما أن الأسواق العالمية لا تزال تعاني من فائض في المعروض، وسط تراجع مستويات الطلب بسبب التوترات التجارية والسياسات الحمائية التي فرضتها واشنطن، ما يجعل أي زيادة إضافية في الإنتاج بمثابة مجازفة غير محسوبة.
تداعيات خروج كازاخستان من أوبك+ لا تقتصر فقط على اضطراب التوازن النفطي، بل قد تفتح الباب أمام دول أخرى لإعادة النظر في عضويتها، خصوصًا تلك التي تشعر أن التزامات التحالف لا تتوافق مع مصالحها الاقتصادية أو خططها التنموية. وفي حال قررت دول مثل العراق أو الإمارات أن تحذو حذو كازاخستان، فإن أوبك+ ستكون أمام خطر التفكك، ما سيؤدي إلى انهيار نظام الحصص والعودة إلى فوضى الإنتاج المفتوح التي سادت في العقد الماضي.
لذلك، تجد السعودية نفسها مضطرة إلى التحرك بسرعة، إما عبر تكثيف الجهود الدبلوماسية لإقناع كازاخستان بالعدول عن موقفها، أو عبر اللجوء إلى الخيار المؤلم والمتمثل بإغراق السوق بالنفط الرخيص لإجبار الجميع على الانضباط أو الانسحاب. وفي كلتا الحالتين، فإن النتيجة ستكون إعادة رسم خريطة السوق النفطية العالمية من جديد، مع ما يحمله ذلك من فرص ومخاطر.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر