«نبض الخليج»
في السياقات الانتقالية، لا يُبنى الحكم على منطق النجاة من الخطر، بل على القدرة على صياغة أفق سياسي جديد يتجاوز حالة الطوارئ. تُقاس شرعية السلطة المؤقتة، وفق منطق العلوم السياسية، ليس بمدى بقائها، بل بقدرتها على تحويل الوقتي إلى تأسيسي، والاستثنائي إلى دستوري، ومن هنا تصبح اللغة السياسية في هذه المراحل الحاسمة ليست فقط أداةً للتواصل، بل بوصلة لقياس الاتجاه الذي تتجه نحوه الدولة.
في هذا السياق، جاءت تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 23 نيسان الجاري، حين قال إن “أي فوضى في سوريا ستضر بالعالم أجمع، وليس دول الجوار فقط”. رغم ما تحمله العبارة من نبرة تحذيرية شائعة في الخطاب الدبلوماسي، إلا أنها تثير أسئلة جوهرية حول ما إذا كانت تمثل مدخلاً لتثبيت شرعية تقوم على تقديم البدائل، أم أنها إعادة تدوير لخطاب يُراهن على التهويل بدل التخطيط.
الخطورة لا تكمن فقط في مضمون هذه العبارة، بل في ما تفصح عنه بنيتها الرمزية؛ إذ يُعاد تفعيل منطق التهديد بالفوضى بوصفه حلاً ضمنياً، لا احتمالاً مرفوضاً. وهذا النمط من الخطاب، الذي يرتكز إلى التهويل من انهيار الدولة، يُقوض الأساس المفترض للسلطات الانتقالية، التي يُفترض بها تقديم “أفق تأسيسي” لا الانغماس في إنتاج خطاب يدور في حلقة مفرغة من التحذيرات.
يُظهر هذا النوع من الخطاب انتقالاً من السياسة كفعل مؤسسي إلى السياسة كفعل رمزي دفاعي، حيث تسعى السلطة الانتقالية إلى بناء شرعيتها من خلال تصوير استمرارها كحاجز ضد الانهيار، لا كأداة لبناء نظام جديد. في العلوم السياسية، يُطلق على هذا النمط “شرعية النجاة”، وهي شرعية قائمة على فكرة “ابقَ لأني أَمنع الأسوأ”، لا “ابقَ لأني أقدم الأفضل”. وهذا المنطق، في المدى البعيد، يعزز هشاشة السلطة بدل أن يُرسّخ ثقتها بنفسها أمام مجتمع متعطش لتغيير جوهري في نمط الحكم وأدواته.
في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية، لا يُلام الفاعلون السياسيون على بناء شراكات مع قوى دولية مؤثرة، ولكن تُلام السلطة إن عجزت عن ضبط شروط هذه الشراكات أو لم تُبدِ رغبة في إعادة التفاوض حولها بما يتناسب مع مشروعها الوطني المُفترض. بمعنى آخر، ليس المطلوب قطع العلاقات، بل إعادة هندستها على قاعدة من المصالح المتبادلة لا الارتهان.
ما يزيد الأمر تعقيداً أن الخطاب الانتقالي حتى الآن لم يرتكز على سردية واضحة للمأسسة، فبينما تسعى السلطة إلى فرض حضورها من خلال التحذير من الفوضى، لا توجد إشارات عملية إلى هندسة مؤسسية جديدة تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. المفارقة هنا أن الدولة يتم الحديث عنها كجدار أمني، بينما تغيب عن خطاب السلطة آليات العدالة الانتقالية، والرقابة، وتوزيع السلطات، وهي الأعمدة المفصلية لأي انتقال سياسي حقيقي.
غياب هذا البُعد المؤسسي يعيد إلى الواجهة سؤال “الوظيفة السياسية للسلطة” هل نحن أمام سلطة تعبر عن مشروع انتقال، أم أمام سلطة تقف على الأطلال دون أن تملك خارطة بديلة؟ وإذا كانت الإجابة تميل إلى الخيار الثاني، فإن الشرعية المعلنة تصبح مشروطة بمشهد أمني أكثر منها نتاجاً لعقد سياسي جديد.
في هذا السياق، تزداد دلالة تصريحات الشرع في نفس المقابلة؛ حول عدم تلقي سوريا عروضاً لاستبدال السلاح الروسي، ووجود اتفاقيات طاقة وغذاء مع موسكو. هذه التصريحات، وإن كانت تُفهم ضمن سياق الضرورات الانتقالية، إلا أنها تكشف عن غياب أي محاولة جادة لإعادة هيكلة العلاقات الخارجية على قاعدة جديدة. ما يُثير القلق هنا ليس مجرد استمرار العلاقة مع موسكو، بل غياب أي خطاب يشير إلى “إعادة تعريف” هذه العلاقة وفق أولويات المرحلة الانتقالية.
في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية، لا يُلام الفاعلون السياسيون على بناء شراكات مع قوى دولية مؤثرة، ولكن تُلام السلطة إن عجزت عن ضبط شروط هذه الشراكات أو لم تُبدِ رغبة في إعادة التفاوض حولها بما يتناسب مع مشروعها الوطني المُفترض. بمعنى آخر، ليس المطلوب قطع العلاقات، بل إعادة هندستها على قاعدة من المصالح المتبادلة لا الارتهان.
إن أحد الأركان المركزية في الخطاب الانتقالي الناجح هو “الصدق السياسي”، أي قدرة السلطة على مخاطبة جمهورها الداخلي أولاً، وليس المراهنة على الخارج وحده. التمسك بتحالفات استراتيجية من دون مراجعة سيعمّق الارتهان، ويجعل من الدولة نفسها موضوعاً للتفاوض لا فاعلاً فيه.
من هنا، فإن أي خطاب يفتقر إلى البنية المفاهيمية للانتقال – العدالة، الشفافية، الإصلاح المؤسسي، التمثيل – يظل مجرد محاولة لتثبيت واقع مؤقت، لا لتأسيس دولة قادرة على الصمود.
في نهاية المطاف، لا يُلام الشرع وحده على صعوبة الظرف، ولكن يُساءل عن طبيعة الخطاب الذي اختاره. فالشرعية لا تُبنى فقط على إدارة الخطر، بل على تصور شكل الدولة ما بعد الخطر.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية