جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في صحيفة الغارديان البريطانية، كتب كينيث روث، المدير التنفيذي الأسبق لمنظمة هيومان رايتس ووتش، والأستاذ الزائر لدى كلية برينستون للعلاقات العامة والدولية، مقالة تعبر عن رأيه حول تطبيق العدالة في سوريا من خلال منح الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، وضرورة سعيها لتحقيق ذلك بما أن الشعب السوري يستحق برأيه، وفيما يلي نص المقالة حسب ترجمة موقع تلفزيون سوريا:
لا توجد سوى حفنة قليلة من الأنظمة المجرمة التي تشبه بوحشيتها نظام بشار الأسد في سوريا، إذ لم يقف أي حد أمام ذاك النظام فيما فعله حتى يبقى محكماً قبضته على السلطة، وقد شمل ذلك استخدام السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة ضد المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، إلى جانب التجويع والتعذيب و”الإخفاء” والإعدام الذي مورس بحق المعارضين، ولذلك يعد ضحايا ذلك النظام بالآلاف.
رحل الأسد في شهر كانون الأول الماضي، بعد أن أسقطته جماعة ثورية هي هيئة تحرير الشام التي أصبحت اليوم تسيطر على الحكومة الانتقالية بدمشق، أما قائد السلطات السورية، أي أحمد الشرع، فقد تعهد بإقامة حكم يشمل جميع أطياف الشعب ومكوناته ويحترم حقوق الجميع. ومايزال الحكم معلقاً بشأن قدرته على الوفاء بتلك الوعود، لكن من الأمور التي قصر بشأنها هي عدم تلبيته لطموح الشعب السوري في تحقيق العدالة، على الرغم من أنه بوسعه هو والمحاكم الدولية لعب دور في هذا المضمار.
لم يضعف هروب الأسد إلى موسكو من الرغبة في إقامة العدل، ولا يجوز له أن يضعفها أصلاً، لأن فلاديمير بوتين أكبر من الأسد بكثير، ولهذا لن يحكم روسيا إلى الأبد، وتماماً كما حصل في عام 2001، عندما أرسلت حكومة سيبيريا الرئيس السابق سلوبودان ميلوزوفيتش ليحاكم في لاهاي مقابل تخفيف العقوبات عنها، كذلك قد تفعل الحكومة الروسية مستقبلاً في حال اقتنعت بتسليم الأسد وزبانيته الذين انضموا إليه في منفاه مقابل ثمن معين، مثل تخفيف العقوبات، أو إبقاء القواعد العسكرية الروسية في سوريا.
التأسيس من الصفر
بيد أن وضع العدالة سيكون أفضل بلا ريب إن أقيمت على المستوى المحلي، ولكن في الوقت الراهن، لا يمكن للنظام القضائي السوري تحقيق ذلك، لأن المهمة الأساسية للمحاكم السورية كانت تنحصر أيام الأسد بتسهيل أمور قمعه الاستثنائي، ولهذا فإنها لا تقدم اليوم إلا فرصة ضئيلة في مجال إقامة محاكمات نزيهة وشفافة والتي تعتبر ضرورية وأساسية من أجل إحقاق العدل. ثم إن إجبار الناس على الإقرار بالإدانة لن يزيد إلا في حجم الظلم الذي مارسه نظام الأسد، أي أنه لن يجبر أي ضرر على الإطلاق. ولذلك لابد من إعادة تأسيس النظام القضائي السوري من الصفر.
أما بالنسبة للمستقبل المنظور، فالأمل الوحيد المتبقي لإقامة العدل معقود بالمحاكم الدولية، ومن السبل المفضية لذلك أمام المحاكم الوطنية هي أن تمارس ولايتها القضائية الشاملة أو خارج حدود البلد، ويمكن لذلك أن يتم نظراً لأن جرائم الأسد شنيعة لدرجة تصنيفها ضمن قائمة الجرائم التي تخضع للملاحقة والمحاكمة على المستوى العالمي.
خطوات بسيطة على طريق العدالة
اتخذت خطوات متواضعة في هذا الاتجاه، معظمها شمل مجرمين سوريين تصادف أنهم هربوا إلى الخارج وتمكن أحدهم من اكتشافهم هناك، ولعل أهم خطوة اتخذت حتى الآن كانت ما قدمه الإدعاء الألماني في كوبلينز ضد ضابط المخابرات السوري الذي كان يدير أحد مراكز التعذيب، والذي أدين وحكم عليه بالسجن مدى الحياة لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، ولكن حتى الآن لم يلقى القبض على أي أحد من كبار المجرمين، على الرغم من الضعف الشديد الذي اعتراهم بعد سقوط الأسد.
تقدمت إحدى الحكومات، وهي الحكومة الفرنسية، خطوة أخرى على غيرها عندما دانت الأسد شخصياً لارتكابه جريمة شنيعة، ألا وهي استخدام غاز الأعصاب، أي السارين، وذلك لقتل أكثر من ألف إنسان في منطقة الغوطة القريبة من دمشق في عام 2013، ولكن من الأفضل هنا الابتعاد عن المحاكمات الغيابية، لأنها لن تفيد كثيراً في التقدم نحو تحقيق العدالة، نظراً لعدم مثول المدعى عليه بنفسه أمام القضاء ليدافع عن ذاته. غير أن المحاكمات الغيابية التي تهدف للضغط من أجل إلقاء القبض على المتهم، تحظى بثناء وقبول كبيرين، ولذلك ينبغي على حكومات أخرى أن تسير على هدي الحكومة الفرنسية في هذا المجال.
غير أن المحاكمات الوطنية تحتاج إلى استثمار كبير من الدولة التي تجريها، وحتى لو تم ذلك عبر افتراضها بأنها ستحصل على دعم من الهيئة التي أسستها الجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة من أجل جمع الأدلة التي تدعم قيام تلك المحاكمات، ألا وهي الآلية الدولية المحايدة والمستقلة. والمنطقي أكثر أن يأتي الدعم من هيئة أخرى، ألا وهي المحكمة الجنائية الدولية، حيث يمكن للحكومات حشد الموارد لدعم تلك المحاكمات.
تقاعس المحكمة الجنائية الدولية في الملف السوري
ظلت المحكمة الجنائية الدولية غائبة في سوريا طوال حكم الأسدين، وعرقل الفيتو الروسي والصيني جهود مجلس الأمن لمنحها الاختصاص القضائي في عام 2014. ومع تضاؤل الأمل بسجن كبار المسؤولين المتهمين بارتكاب جرائم مع بقاء الأسد بالسلطة، لم يبد المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية أي اهتمام واضح بالسير ضمن أي طريق آخر واضح من أجل منح محكمته هذا الاختصاص القضائي.
غير أن سقوط الأسد غير كل ذلك، فقد زار كريم خان، وهو كبير المدعين العامين لدى المحكمة الجنائية الدولية حالياً، السلطات
في دمشق، ولكن على الرغم من سلسلة الجرائم التي ارتكبها الأسد، لم يتحقق أي تقدم يذكر في هذا السياق، ويقع جزء من اللوم في ذلك على السلطات السورية ، والجزء الآخر على خان.
إن الطريق الأسهل لتأمين الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية يتم عبر انضمام السلطات الجديدة اليوم إلى المحكمة ثم منحها الاختصاص القضائي بأثر رجعي، ويعتبر قبول المحكمة مؤشراً مهماً على رغبتها باحترام حقوق السوريين، لكن الشرع لم يتخذ تلك الخطوة، ولم يبد ما يشير إلى أنه ينوي أن يتخذها أصلاً، من دون أن تضح أسباب عدم قيامه بذلك.
الجميع يخشى من المحاكمة
ولعل أحد أسباب امتناعه هو خوفه على نفسه وعلى قادته في هيئة تحرير الشام من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لهم بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبوها في شمال غربي سوريا، حيث سيطروا منذ عام 2017. وهذا الخوف ليس مسألة ثانوية، غير أن تلك الانتهاكات تتضاءل وتبهت أمام ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم، ولهذا من الصعب أن نتخيل تحول تلك الانتهاكات إلى أولوية لدى المدعي العام الحالي.
وقد يعود أحد أسباب ذلك إلى أن بعض القوى الأجنبية العاملة في سوريا اليوم أبدت انزعاجها من احتمال منح الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، فتركيا التي تعتبر داعماً أساسياً للسلطات السورية، قد لا ترغب بالإشراف على المنطقة التي سيطرت عليها في الشمال السوري. والولايات المتحدة التي يمثل قرارها القائم على إبقاء العقوبات التي فرضت خلال حقبة الأسدين عقبة أساسية أمام الاستقرار الاقتصادي ومن ثم السياسي لسوريا، لا ترغب هي الأخرى بأن تخضع قواتها التي حاربت تنظيم الدولة في الشمال السوري للتدقيق.
أما إسرائيل التي تعرض مسؤولوها لاتهامات وجهتها لهم المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة لتجويع المدنيين الفلسطينيين في غزة وفرض حالة من الحرمان عليهم، فلا تريد أن تتعرض لمزيد من المساءلة بسبب عملياتها المتواصلة على سوريا، ولاريب أن روسيا ستعارض منح المحكمة الجنائية الدولية ذلك الاختصاص القضائي، نظراً لتوجيه اتهامات لقادتها واحتمال تعرض حتى رئيسها لاتهامات بقصف المشافي وغيرها من البنى التحتية المدنية في شمال غربي سوريا، بما أن اتهامات بتنفيذ جرائم في أوكرانيا قد وجهتها المحكمة الجنائية الدولية بالأصل لهؤلاء المسؤولين.
ونظراً لوجود هذه الأسباب المتعارضة، فلن يظهر ما يجبر السلطات السورية على الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية بعد أن رفضت ذلك، لكن الأمور لم تنته عند هذا الحد، لأنه بوسع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لوحده أن يقيم الاختصاص القضائي على فئة فرعية مهمة من الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد.
ماينمار مثالاً
والحل هنا يكمن في تطبيق الاستراتيجية نفسها التي طبقت على ماينمار التي لم تنضم للمحكمة الجنائية الدولية، لكن دولة بنغلاديش المجاورة لها انضمت لتلك المحكمة، وهذا ما يمنح المحكمة الاختصاص القضائي بالنسبة لأي جريمة ارتكبت في أراضي الدولة المجاورة.
وعلى الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع باختصاص قضائي مباشر بالنسبة للجرائم الجماعية، والتي تشمل عمليات القتل والاغتصاب والإحراق التي ارتكبت بحق الروهينغيا في عام 2017 بولاية راخين الغربية في ماينمار، فإنها تتمتع باختصاص قضائي يشمل جريمة التهجير القسري لأن تلك الجريمة لم تكتمل إلا بعد أن وطأت أقدام الروهينغيا أراضي بنغلاديش. وبذلك أضحت تلك الطريقة أسلوباً آخر لمجابهة الجرائم التي تسببت بنزوح أكثر من 750 ألف نسمة من شعب الروهينغيا، ولقد صادقت المحكمة على نظرية الاختصاص القضائي وماتزال تنظر اليوم بطلب المدعي العام بشأن إصدار مذكرة اعتقال بحق مين أونغ هلاينغ قائد جيش ماينمار.
ويمكن للمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية أن يطبق الأمر نفسه في سوريا، بما أن الأردن عضو في المحكمة الجنائية الدولية، وجرائم الأسد دفعت أكثر من 700 ألف سورياً إلى النزوح لهناك. أي أن توجيه الاتهام للمسؤولين من أيام حكم الأسد بهذه الجريمة، أي جريمة التهجير القسري، قد يكون السبيل لتوجيه الاتهامات لمزيد من الأشخاص فيما يتصل بالجرائم التي ارتكبها نظام الأسد. لأن تحقيق العدالة بشكل جزئي أفضل بكثير من عدم تحقيقها على الإطلاق.
ثم إن هذا النهج القائم على الاختصاص القضائي لا يمثل خطراً كبيراً على السلطات في سوريا، والتي لابد للمدعي العام أن يحتاج إلى تعاونها وذلك لإجراء تحقيقات في مواقع الجرائم على أقل تقدير. ومهما بلغت فعائل رموز تلك السلطة من سوء في شمال غربي سوريا وذلك قبل توليهم لزمام الأمور بدمشق، فإنهم لم يكن لهم أي دور على الإطلاق في نزوح السوريين الذين كانوا يعيشون في جنوبي البلاد نحو الأردن، كما لم تسهم أي جهة دولية فاعلة حالياً في سوريا بنزوح السوريين إلى الأردن.
لعل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ينفذ هذه الخطة سراً، ولكننا نشك بذلك، إذ بالنسبة لماينمار، أعلن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وبشكل صريح، أيام فاتو بينسودو الذي خلفه خان، بأنه سيعمل بهذا النهج، إلا أن خان لم يلمح إلى تطبيق ذلك بالنسبة لسوريا، على الرغم من أنه يجب عليه تطبيق هذا النهج، ولكن إلى جانب التأييد الكبير الذي تحظى به المحكمة الجنائية الدولية، فإن المرء عندما يدافع عنها علناً، فإن منتقديها يسارعون إلى تذكيره بتقاعسها في سوريا. فلقد بقي بعض الناس طوال سنين يدافعون عنها بالقول بأنها لا تحظى بالاختصاص القضائي بالنسبة لجرائم الأسد، وهذا ليس عيباً فيها، ولكن، بعد إقرار المحكمة بمسار الاختصاص القضائي الخاص بالتهجير القسري فيما يخص ماينمار، أصبح القرار بشأن متابعة هذا النهج في سوريا بين يدي المدعي العام بصورة أساسية، إذ على فرض بقيت السلطات السورية ترفض الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، يتوجب على خان أن يمارس هذا الخيار المتعلق بالاختصاص القضائي، لأن الشعب السوري يستحق ذلك.
المصدر: The Guardian
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية