كتب: هاني كمال الدين
مع تزايد التوترات التجارية الناتجة عن السياسات الأمريكية الجديدة، تتصاعد المخاوف من دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود حاد خلال العام الجاري، وهو ما أجمعت عليه آراء مئات من الاقتصاديين الذين شملهم استطلاع موسع أجرته وكالة “رويترز”. وقد أشار غالبية هؤلاء الخبراء إلى أن الرسوم الجمركية التي فرضتها الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب شكّلت صدمة عنيفة أثرت سلبًا على معنويات السوق العالمية، وأضعفت التوقعات الاقتصادية بشكل عام.
فقط قبل ثلاثة أشهر، كان ذات الفريق الاقتصادي، المكوّن من أكثر من 300 اقتصادي يمثلون ما يقارب 50 دولة، يتوقع أداءً قويًا ومستقرًا للنمو العالمي، مستندين إلى مؤشرات تدل على مرونة الاقتصاد العالمي واستقرار الأسواق. غير أن الرياح السياسية المعاكسة أتت بما لا تشتهي المؤسسات المالية، حيث قرر ترامب فرض رسوم جمركية شاملة على واردات الولايات المتحدة، وهي خطوة أحدثت زلزالًا في الأسواق، ومحوًا لآلاف المليارات من قيمة الأسهم العالمية، إضافة إلى زعزعة ثقة المستثمرين في الأصول الأمريكية وعلى رأسها الدولار، الذي طالما اعتُبر ملاذًا آمنًا في أوقات الأزمات.
ورغم أن بعض هذه الرسوم تم تجميدها مؤقتًا، إلا أن بعضها الآخر لا يزال قائمًا، إذ أبقت واشنطن على رسوم قدرها 10% على الواردات، وفرضت رسومًا باهظة وصلت إلى 145% على المنتجات الصينية، في إشارة واضحة إلى تحول كبير في السياسة التجارية الأمريكية تجاه بكين، شريكها التجاري الأكبر. هذا الوضع ألقى بظلاله على الشركات العالمية، التي أصبحت عاجزة عن وضع خطط مستقبلية في ظل حالة من الغموض غير المسبوق، لا سيما أن كثيرًا من هذه الشركات اضطرت إلى تقليص توقعاتها بشأن الأرباح أو إلغائها تمامًا.
وقد عبّر جيمس روسيتر، أحد كبار المحللين في قسم الاستراتيجيات الكلية العالمية بشركة TD Securities، عن هذه الإشكالية بوضوح عندما قال إن الشركات تجد صعوبة حتى في التخطيط للأشهر المقبلة، ناهيك عن التخطيط طويل الأجل في بيئة تجارية تتغير فيها القواعد كل يوم، ولا أحد يعلم ما إذا كانت الرسوم الحالية ستتضاعف أو تُلغى أو تستبدل بسياسات جديدة أكثر تشددًا.
ومن اللافت أن نتائج استطلاع رويترز أظهرت إجماعًا شبه كامل بين الاقتصاديين على التأثير السلبي للرسوم الجمركية على مناخ الأعمال العالمي، حيث لم يعبّر أي من المشاركين عن رؤية إيجابية لتلك الإجراءات، بينما أكد 92% منهم أن آثارها سلبية، في حين اعتبر 8% فقط – معظمهم من اقتصادات ناشئة كالهند – أنها محايدة، دون أن يرى أي طرف فائدة اقتصادية مباشرة لها.
وكان لهذا الإجماع أثر مباشر على توقعات النمو الاقتصادي للعام 2025، حيث خفّض ثلاثة أرباع المشاركين تقديراتهم، مما جعل متوسط التوقعات ينخفض من 3.0% إلى 2.7% فقط، وهو تراجع يُعدّ مؤشرًا خطيرًا في اقتصاد عالمي يعتمد على الثقة وسلاسة حركة التجارة. ومع ذلك، أظهر صندوق النقد الدولي بعض التفاؤل، إذ أبقى على تقديراته عند 2.8%.
اللافت أيضاً أن توقعات النمو لكل من الصين وروسيا بقيت دون تغيير مقارنة بالفصل السابق، عند 4.5% و1.7% على التوالي، ما يعني أنهما ستتفوقان على الولايات المتحدة من حيث وتيرة النمو خلال نفس الفترة. غير أن هذه الاستثناءات لا تقلل من خطورة المشهد العام، حيث إن اقتصادات كبرى مثل كندا والمكسيك شهدت تخفيضات كبيرة في توقعات النمو، لتصل إلى 1.2% و0.2% على التوالي، وهو ما يعكس تضررها المباشر من تداعيات السياسة التجارية الأمريكية.
تتعمق الأزمة أكثر بالنظر إلى التوقعات الخاصة بالعام 2026، إذ يظل الانقسام قائمًا بين من يأمل في التعافي ومن يرى استمرار التدهور، وهو ما يؤكد أن التأثيرات الناجمة عن الرسوم لن تزول سريعًا، وأن إعادة بناء الثقة في النظام التجاري العالمي ستستغرق وقتًا طويلًا. وقد أشار عدد كبير من الاقتصاديين إلى أن هذه السياسات التجارية تمثل نقطة تحول قد لا يُمحى أثرها بسهولة حتى لو تم التراجع عنها.
وفي تقييمهم لاحتمال وقوع ركود اقتصادي عالمي هذا العام، أجاب 60% من المشاركين بأنه احتمال مرتفع أو مرتفع جدًا، وهو ما يعكس حجم القلق بين النخب الاقتصادية. فيما عبّر 66 خبيرًا فقط عن تفاؤل نسبي، معتبرين أن احتمال الركود ضعيف، من بينهم أربعة فقط رأوا أن هذا الاحتمال ضئيل للغاية، في حين اعتبره البعض الآخر واقعًا لا مفر منه في حال استمرار الوضع الحالي.
وكان لافتًا أيضًا تعليق تيموثي غراف، المدير المسؤول عن استراتيجيات الاقتصاد الكلي لمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا في “State Street”، حيث قال إن الضرر الناتج عن هذه الإجراءات ليس اقتصاديًا فقط بل استراتيجيًا كذلك، إذ إنها تزعزع ثقة العالم في الولايات المتحدة كلاعب مسؤول في الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، سواء كانت تجارية أو دفاعية.
أما فيما يتعلق بالتضخم العالمي، فإن الرسوم المفروضة قد تعرقل جهود البنوك المركزية في الحد من الارتفاع الحاد للأسعار، وهو ما يشكل مصدر قلق إضافي. فبينما قامت معظم البنوك المركزية خلال العامين الماضيين برفع أسعار الفائدة بشكل سريع للسيطرة على التضخم، فإن الرسوم الجمركية تُعد من العوامل التي ترفع الأسعار بدلًا من خفضها، وهو ما يجعل من الصعب على تلك المؤسسات تحقيق أهدافها.
وتشير بيانات الاستطلاع إلى أن 19 من أصل 29 بنكًا مركزيًا من كبار البنوك حول العالم لا يتوقعون الوصول إلى أهدافهم التضخمية خلال العام الحالي، بينما يرى 15 منهم أن ذلك لن يتحقق حتى عام 2026، ما يعزز المخاوف من استمرار ارتفاع الأسعار لفترة طويلة، الأمر الذي يضعف القدرة الشرائية ويحد من الاستهلاك، ويؤدي بالتالي إلى تباطؤ اقتصادي طويل الأمد.
وأضاف غراف تعليقًا على هذا الوضع قائلاً إن فك الارتباط التجاري مع الشريك الأكبر – في إشارة إلى الصين – لن يمر دون تبعات قاسية، إذ إن العواقب ستكون فوضوية وتنعكس بشكل مباشر على الأسعار، والدخول الحقيقية، والطلب العالمي. وهو ما يجعل سيناريو الركود التضخمي، رغم ندرته تقليديًا، أقرب من أي وقت مضى. فالركود التضخمي هو خليط خطير من النمو الضعيف، والتضخم المرتفع، والبطالة المتزايدة، وقد شهدته اقتصادات كبرى في فترات حرجة من القرن الماضي.
وختامًا، تبدو الصورة الاقتصادية العالمية اليوم مضطربة وغير مطمئنة، في ظل استمرار التصعيد التجاري من جانب الولايات المتحدة، وتراجع ثقة المستثمرين والمؤسسات في استقرار النظام التجاري العالمي. وفي ظل هذا الواقع، بات من الضروري إعادة النظر في المسارات السياسية والاقتصادية الحالية، والسعي نحو تهدئة النزاعات التجارية بدلًا من تأجيجها، حفاظًا على توازن الاقتصاد العالمي ومنع انزلاقه نحو ركود قد يكون أكثر قسوة مما تشير إليه التوقعات الحالية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر