«نبض الخليج»
في أوائل تشرين الثاني، نصبت لوحة إعلانية في تل أبيب لتهنئة الرئيس المنتخب دونالد ترامب ودعوته للمساهمة في “جعل إسرائيل عظيمة مرة أخرى”. ومؤخراً، وفي أماكن لم تخطر ببال أحد، تبين أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد عزم على جعل إسرائيل “أعظم” مرة أخرى، وهذا ما يمكن أن يُفهم من توغل قواته في مساحات واسعة من الأراضي السورية بعد سقوط بشار الأسد.
وقال معهد واشنطن في تقرير: “على الرغم من أن الدوافع الأمنية قد تبرر بعض نواحي هذا التوغل، يعتبر حجم التوغل الإسرائيلي مستفزاً على أقل تقدير، لأنه يمكن أن يتطور فيعمل على زعزعة الاستقرار عند المنطقة الحدودية على المدى الطويل”.
فيما يلي ترجمة التقرير:
مبررات التوغل الإسرائيلي
في عام 2013، وبعد عامين من اندلاع الحرب في سوريا، بدأت القوات الإسرائيلية باستهداف المواقع الإيرانية والعناصر التابعة لإيران داخل الأراضي السورية، وكان الهدف الأساسي لذلك قطع “الجسر البري” المستخدم في نقل الأسلحة الثقيلة إلى حزب الله في لبنان.
وخلال العقد التالي، واصلت القوات الإسرائيلية تنفيذ ضربات منتظمة استهدفت تشكيلات الحرس الثوري الإيراني، وقواعد صاروخية إيرانية، وعناصر من حزب الله، وقطعات أخرى تابعة لميليشيات مدعومة إيرانياً في الداخل السوري، ومع ذلك، اقتصر أغلب تلك العمليات على تنفيذ غارات جوية. وفي أيلول من عام 2024 وقبل شهرين على بدء الهجوم المفاجئ الذي شنّته قوات المعارضة بقيادة أحمد الشرع للإطاحة ببشار الأسد، نفّذت القوات الإسرائيلية عملية جوية-برية مشتركة استهدفت مركز الدراسات والبحوث العلمية، وهو منشأة سرية تابعة للنظام تعمل على تصنيع صواريخ موجهة بدقة، وقد أسفرت العملية عن تدمير المقر بالكامل. وفي تشرين الأول، ومع تصاعد المخاوف بشأن الهشاشة الكبيرة التي تعتري النظام السوري الجديد، بدأت القوات الإسرائيلية بنشر وحدات برية ضمن المنطقة التي خصصت لقوات الأمم المتحدة المعنية بمراقبة فض الاشتباك (أو ما يعرف بالأندوف)، وهي منطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد على مساحة 241 كيلومتراً رُسمت عام 1974 للفصل بين القوات الإسرائيلية والسورية في مرتفعات الجولان.
كما قامت وحدات الجيش الإسرائيلي ببناء طرق جديدة وتعزيز مواقع التحصين على طول السياج الحدودي، قبل أن تُقدِم على نشر لواءين بريين وعدد من الآليات المدرعة داخل المنطقة العازلة.
شكّل سقوط الأسد نقطة مرحلة دراماتيكية جديدة بالنسبة للعمليات الإسرائيلية في مناطق أخرى من سوريا. فمع حل قوات النظام وتزايد المخاوف من إمكانية استيلاء جهات معادية على أسلحة النظام البائد، شنت قوات الدفاع الإسرائيلية سلسلة من الغارات الجوية هدفها تدمير معظم الأصول الاستراتيجية لدى الجيش السوري. كما استولت القوات الإسرائيلية على مواقع انسحب منها هذا الجيش، وتلك المواقع أصبحت تستخدم كنقاط مراقبة استراتيجية لقوات الشرع في دمشق من جهة، ولمعاقل حزب الله في سهل البقاع اللبناني من جهة أخرى. وفي نهاية المطاف، أنشأت إسرائيل تسعة مواقع عسكرية داخل منطقة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (الأندوف)، وتوسعت خارج المنطقة العازلة بأساليب عدة، كان من بينها: تنفيذ غارات في محيط دمشق، وخاصة في منطقتي الكسوة ومعربا، وفي مدينة درعا الواقعة على الحدود الأردنية، وإجراء عمليات بين الفينة والأخرى لنزع السلاح من القرى الحدودية ومصادرة الأسلحة الثقيلة على مسافة بلغت تصل إلى 16 كيلومتراً تقريباً داخل الأراضي السورية، إلى جانب تعزيز إسرائيل لوجودها بشكل دائم شمالي المنطقة الواقعة على الحدود مع لبنان.
كان أحد أسباب هذا الانتشار خوف إسرائيل من هجوم آخر يشبه الهجوم الذي وقع في السابع من تشرين الأول عام 2023، ولكن عبر حدودها الشمالية هذه المرة، كما أن إسرائيل ترى في أحمد الشرع (الذي بايع في السابق تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية) والميليشيات الإسلامية التي ساعدته في إسقاط الأسد تهديداً كبيراً. وتبدي إسرائيل قلقاً بالغاً من استمرار الفوضى في سوريا في ظل عجز السلطات الجديدة عن فرض السيطرة بعد رحيل الأسد. ومن الناحية القانونية، تعتبر إسرائيل أن اتفاق فض الاشتباك الذي وقعته مع والد بشار الأسد في عام 1974 لاغياً بعد سقوط النظام، وذلك إلى أن يعود الأمن والنظام للبلد على أقل تقدير.
يبدو أن إسرائيل ماضية في إنشاء منطقة عازلة خاصة بها داخل سوريا. ففي 23 شباط، حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أن بلاده لن تسمح للميليشيات أو لقوات الحكومة السورية بأن تنشط جنوبي دمشق، وقد عمدت إلى فرض هذا الحظر عبر ضربات جوية متكررة استهدفت معدات عسكرية وعناصر ميدانية. وفي الوقت نفسه، سعت حكومة نتنياهو إلى إقامة علاقات مع الدروز السوريين الموجودين ضمن المنطقة الأممية لمراقبة فض الاشتباك (الأندوف)، وحاولت التواصل مع زعماء دروز آخرين موجودين في الشمال، وخاصة في جرمانا بالقرب من دمشق، من دون أن تحقق أي نجاح يذكر، إذ ألمح نتنياهو في الأول من آذار إلى إمكانية القيام بعمل عسكري لحماية هذه الأقلية ممن وصفهم بالقوات الإسلامية التابعة للحكومة الجديدة. وخلال الأسبوع الماضي، عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن أسفه حيال المجازر الأخيرة التي طالت طائفة أخرى، ألا وهي الطائفة العلوية، ما دفع بعض المراقبين إلى التكهن بأن إسرائيل قد تعرض على أبناء تلك الطائفة الحماية العسكرية عبر قوات الجيش الإسرائيلي. لكن بطبيعة الحال، فإن إظهار التعاطف مع معاناة الأقليات في ظل الإدارة الإسلامية الوليدة في دمشق لا يعني بالضرورة أن إسرائيل ستتخذ خطوات فعلية لحمايتهم، خاصة بعد أن نأت بنفسها عن أي تدخل لحماية الدروز خلال سنوات الحرب السورية رغم الانتهاكات الموثقة التي تعرّضوا لها على يد النظام البائد.
من جانبه، وبمجرد وصوله إلى دمشق، تخلّى الشرع عن اسمه الحركي الذي بقي معه لسنوات واستبدل الزي العسكري ببزة رسمية وربطة عنق. وخلال الأسابيع التي أعقبت ذلك، أصدر هو والدائرة المحيطة به من السلطات الانتقالية عدداً من البيانات التي تؤكد عدم رغبتهم في خوض أي صراع مع إسرائيل. إذ في 16 كانون الأول مثلاً، صرّح الشرع بأنه “لا ينوي مواجهة إسرائيل”، وتعهد بألا تُستخدم سوريا كنقطة انطلاق لهجمات “ضد دول الجوار”.وعلى الرغم من هذه التطمينات، لا يزال الغموض يكتنف نوايا الشرع على المدى البعيد، ومع أنه ابتعد منذ زمن طويل عن تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، نجد ضمن حكومته عدداً من الإرهابيين المعروفين إلى جانب المقاتلين الجهاديين الأجانب الذين يعلنون عن عدائهم لإسرائيل. وحتى لو كان الشرع صادقاً عندما أعلن عن رغبته بإقامة علاقات ودية مع إسرائيل، فإنه لا يسيطر إلا على جزء من الأراضي السورية والميليشيات العاملة فيها.
نظراً لانعدام الاستقرار في سوريا حالياً، وغموض توجهات الحكومة السورية الجديدة في المستقبل، يمكن تفهم إسرائيل لاتخاذ خطوات دفاعية استباقية وإنشاء منطقة نفوذ في الجنوب السوري. لكن السؤال المطروح اليوم هو: هل يُبرّر التهديد القائم هذا الانتشار الإسرائيلي المكثف عبر الحدود والتمدد خارج المنطقة الأممية لفض الاشتباك؟ وبصرف النظر عن الجواب، فإنه ينبغي على واشنطن والجهات الفاعلة الأخرى مراعاة عنصر أساسي آخر يدفع إسرائيل للتوسع في سوريا ألا وهو: قلق إسرائيل من تنامي النفوذ التركي في دمشق.
توصيات سياسية
خلال شهر كانون الثاني الماضي، وعند سؤاله عن احتمال التعامل مع سوريا بعد سقوط الأسد، قال الرئيس ترامب: “إن سوريا غارقة في الفوضى.. ثم إنهم ليسوا بحاجة لتدخلنا.”وبحسب تقارير، فإن إدارة الرئيس الأميركي تضع مخططات لسحب العدد الضئيل من العساكر الأميركيين الموجودين في شرقي سوريا، والذين ساعدوا شركاءها الكرد على كبح جماح تنظيم الدولة الإسلامية طوال سنين خلت، إلى جانب مساهمتهم في حراسة مقار الاحتجاز التي تضم آلافاً مؤلفة من عناصر التنظيم وأتباعه وأهاليهم. ومع ذلك، لا تزال لدى واشنطن مصلحة أساسية في دعم الاستقرار وضمان بسط الحكومة السورية لسيادتها، والدفاع عن حدودها، ومحاربة الإرهاب، والتخلي عن الإرث الذي حملته سوريا طويلاً والمتمثل في تهديد دول الجوار، لأن أميركا إن لم تفعل ذلك، فإن العديد من الأهداف الأخرى للإدارة الأميركية في الشرق الأوسط ستصبح عرضة للخطر.
لتحقيق تلك الغاية، يتعيّن على المسؤولين الأميركيين التعاون مع الشركاء على تحسين الأوضاع الاقتصادية، وذلك من خلال إيجاد توازن مناسب عبر تخفيف العقوبات بشكل فوري (ولو لفترة مؤقتة)، كما ينبغي عليهم المساعدة في الحد من حالة التشرذم والتفكك والانقسام مع محاربة ظهور مناطق نفوذ مخصصة لأمراء الحرب، ولن يتم ذلك إلا عبر مواصلة تشجيع العناصر المسلحة على الاندماج ضمن الجيش السوري الجديد، بما أن ثمار هذا النهج بدأت تظهر خلال الأسبوع الماضي وذلك عندما توصلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية إلى اتفاق أولي للاندماج مع قوات الشرع.
ولعل الأهم من ذلك، أن تسعى إدارة ترامب لإجراء محادثات مع إسرائيل وذلك حتى تفهم استراتيجيتها في سوريا على المدى البعيد بشكل أفضل، إذ على سبيل المثال، في الوقت الذي تشجع فيه الولايات المتحدة إسرائيل على تعزيز أمنها من خلال توسيع شراكاتها عبر الحدود، فإن أي محاولات لتشكيل قوة وكيلة جديدة هناك تعتبر خطوة تفتقر إلى الحكمة، وقد تجلى ذلك عندما دعمت إسرائيل عملية تشكيل جيش لبنان الجنوبي قبل عقود.
من المفترض أن تكون إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها بشكل كافٍ من مواقعها المقامة في منطقة فض الاشتباك وفي جبل الشيخ، وكذلك عبر شن غارات جوية دورية ضمن مناطق أعمق داخل الأراضي السورية عند الضرورة. أما إذا أبقت إسرائيل قواتها متمركزة خارج تلك المنطقة، فقد يؤدي ذلك بمرور الوقت إلى تشجيع التطرف وظهور تهديدات إرهابية، مما يُقوّض أمن إسرائيل واستقرار سوريا معاً. ورغم التصريحات السابقة للشرع حول تجنّب أي توتر مع إسرائيل، بدأت حكومته التي تحاصرها المشكلات من كل جانب تتذمر من انتشار قوات الجيش الإسرائيلي ضمن الأراضي السورية، ناهيك عن ظهور مجموعات “مقاومة” جديدة تدعمها إيران وهدفها مقارعة “الاحتلال” الإسرائيلي، على حد وصفها.
أما على المدى الطويل، وبالرغم من صعوبة ذلك، فقد يترتب على سوريا وإسرائيل أن تقوما بتلك الخطوة المحفوفة بالمخاطر فعلاً، لكنها قد تكون خطوة لا غنى عنها، والتي تتمثل بالتفاوض على إقامة منظومة أمنية جديدة على الحدود، وذلك لإدخال تعديلات على اتفاق فض الاشتباك الموقع في عام 1974 أو ليحل الاتفاق الجديد محل القديم. وعبر الاعتماد على وساطة واشنطن، ينبغي لهذا الاتفاق الجديد أن يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الأمنية المعقدة لسوريا بعد سقوط الأسد، إضافة إلى مراعاة ضعف فعالية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مناطق الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل عام.
وأخيراً، ينبغي على واشنطن أن تنخرط في حوار مباشر مع تركيا بشأن تدخلها في الشمال السوري والعلاقات التي أقامتها مع الميليشيات الإسلامية العاملة هناك، وذلك لأن سوريا إذا تحولت إلى دولة ضعيفة مقسمة إلى منطقتي نفوذ دائم بين كل من تركيا وإسرائيل، فستظهر نقاط توتر مع احتمال قيام نزاع بين هاتين الدولتين الحليفتين للولايات المتحدة. وقد أفادت تقارير بأن إسرائيل تشعر بقلق بالغ من تنامي النفوذ التركي لدرجة دفعتها للضغط على واشنطن من أجل تسهيل عودة القوات الروسية إلى سوريا، على الرغم من أن انسحاب موسكو كان من أبرز إنجازات السياسة الأميركية التي أسفر عنها سقوط الأسد.
كان ترامب محقاً حينما وصف سوريا بأنها غارقة بالفوضى، ولكن في حال عدم وجود أي تدخل دبلوماسي أميركي فيها، فإن احتمال زيادة الفوضى سيتصاعد، وسينعكس ذلك سلباً على الأولويات السياسية الأخرى التي يسعى الرئيس الأميركي لتحقيقها في منطقة الشرق الأوسط.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية