«نبض الخليج»
عقب تحرير سوريا من قبل الثوار السوريين وإسقاط نظام الأسد، بدأت تظهر في الأوساط الاجتماعية السورية في المناطق التي كان سابقاً يسيطر عليها نظام الأسد لا سيما في المحافظات الكبرى، مظاهر “الأسدية المنهزمة” من خلال اعتبار إدلب ذات هوية سياسية وثورية بالاعتماد على سردية الأسد، الذي وظف هذا الاستخدام كاستراتيجيا سياسية لشيطنة الثورة السورية ومحافظة إدلب وتصويرها كحركة متطرفة ومعقلاً للتطرف.
فعلى مدار الثورة السورية، شكّل نظام الأسد عبر ماكينته الإعلامية تصوراً عاماً وجمعيًا لدى السوريين، أنّ محافظة إدلب هي معقل للتطرف وأن كل من يعارض نظامه هو “إدلبي” بالضرورة، ومع الوقت تطوّر هذا الموقف، ليتبناه فنانون وشخصيات سياسية داعمة لنظام الأسد من أجل تأكيد ما حاول نظام الأسد فرضه كفكرة تتجاوز البعد المناطقي وتعبّر أكثر من مفاهيم سياسية صنعها استبداد الأسد بالاعتماد على مقاربة “تفكيك ما تبقى من المجتمع السوري” بعدما نجح على مدار عقود في رسم انطباعات مناطقية وطائفية عن جميع المحافظات السورية؛ ومن لا يذكر كيف سعى نظام الأسد لجعل محافظة إدلب “محافظة للشرطة السورية” من أجل تشويه سمعة المحافظة بعدما الحادثة الشهيرة بطريقة “استقبال حافظ الأسد” عبر ضربه بالحذاء.
يعتقد القاطنون في المناطق التي كان سابقاً يسيطر عليها الأسد، أنّ المعارضين لنظام الأسد على اختلاف هوياتهم الدينية والمناطقية والثقافية هم “أدالبة” بالضرورة، وهنا لم تعد “إدلب” تشير ل”هوية مكانية” وإنما كذلك “هوية ثورية”، عند محاولة التفريق بين هؤلاء الذين وقفوا مع الثورة السورية وتهجروا لإدلب أو عملوا لصالحها من المغترب عبر فرق تطوعية ومنظمات ونقابات وبين الذين قرروا دعم نظام الأسد وقطنوا في مناطق الأسد “سابقاً” وهذا لا يعني أنّ كل من بقي في تلك المناطق مؤيد لنظام الأسد، وإنما يمكن القول إنّ ثقافة تلك المناطق التي شكلها الاستبداد هي التي سيطرت على العقل الجمعي هناك بدعم وضخ كبير من قبل إعلام الأسد وشبكاته متعددة الاتجاهات.
تتخطى المواقف حول محافظة إدلب البعد “المناطقي”، وتتصف ببعد سياسي، مع أنّ كلا البعدين هم “ثقافة أسدية” لكن الثاني أكثر خطورةّ.
الحقيقية، لم يشكّل النظام وحده التصور السياسي حول إدلب فقط، وإنما كذلك المجريات السياسية التي عمل عليها النظام كذلك أسهمت في بناء هذا الاعتقاد، مستفيدًا من حظوة إدلب لدى المعارضين لنظامه بكونها تحظى باهتمام ورمزية كبيرة لدى الثوار السوريين لأسباب عديدة على رأسها أنّها احتضنت كل السوريين المعارضين لنظام الأسد بعد تهجيرهم، مما جعلها “سورية الصغرى” كما يحلو لكثر تسميتها.
ومن هذه التسمية، تخرج إدلب من كونها مجرد محافظة ذات بعد مكاني، لتصبح ذات بعد رمزي عميق ومرتبط بموقف ثوري واضح “معارضة الاستبداد ونظام الأسد ومقاومته والتحضير لإسقاطه” عند هذه الفرضية من المفترض قراءة كل ما تبع من تصريحات ومواقف سياسية وشعبية واجتماعية؛ أي باعتبار إدلب ليست جغرافيا وإنما حاملاً وطنياً.
تْعارض شرائح عديدة، تحويل سوريا إلى “إدلب” ولطالما قال كثر “أن سوريا أكبر من إدلب” ولهذا التعبير جانبين، جانب محق متعلق بتوسع النطاق الجغرافي وانتصار “سوريا الصغرى” على “سوريا الأسد” بالتالي ضرورة التعاطي مع الملف السوري وفق ضرورات المرحلة الجديدة وهو موقف متعلق بإشراك الجميع، أمّا الموقف الثاني فهو يتسم ببعد مختلف ويتأرجح بين ثنائية “الثورة-الأسد” من خلال الاعتماد على الصورة النمطية التي شكلها نظام الأسد حول “المعارضين” أو “إدلب” كصورة سوداء تسيطر عليها جماعات لا تشبه الشعب السوري، أي أنّها موقفاً سياسياً أقرب للمنظومة القديمة “الأسدية” من الرغبة في بناء سوريا وفق واقعها الجديد.
تتخطى المواقف حول محافظة إدلب البعد “المناطقي”، وتتصف ببعد سياسي، مع أنّ كلا البعدين هم “ثقافة أسدية” لكن الثاني أكثر خطورةّ، بكون الأسد عمل عليه خلال آخر سنوات الثورة السورية؛ وفق ما أراد قوله حول من عارضه، عبر تصويرهم أنّهم مجرد جماعات خارجة عن القانون، يفضلون الفوضى على القانون، التمرد على النظام، القتل على السلام، هذا ما عدا النظرة الفوقية المتعلقة بالطبقية المجتمعية عند المقارنة بين المحافظات السورية بين التقليل من شأن بعضها وإهمالها وبين أخرى لطالما صورها أنّها مرجع للبرجوازية والرأسمالية السورية.
ومن هنا، أتت معارضة “إدلب” من قبل مؤيدي الأسد أو ما يمكن تسميتهم “الفلول الاجتماعية والسياسية” استمراراً لمقاربة “الأسدية” وتسليماً بالاعتقادات الماضية التي صورها الأسد لهم. ما يعني، أنّ هذه النظرة الفوقية هي ذات بعد سياسي وليست مناطقي، وأنّ غالباً من يعبر عنها هو إمّا مؤيد للأسد، أو متأثر به. بالتالي، من المهم التفريق بين الموقف المناطقي التقليدي القديم الذي بنيت عليه دراسات الهوية، وبين الموقف السياسي في نموذج إدلب الثوري، فعند التعبير عن موقف مناطقي من المحافظة لا يُقصد موقفاً مناطقياً فحسب وإنما سياسياً تجاه الثورة السورية.
تعاني سوريا الجديدة، من إشكالية كبيرة في التعامل مع التفسخ الاجتماعي الكبير الذي خلفه نظام الأسد، وتجاوز سردياته التي بناها بما يخدم مصالحه على أسس تفتيت المجتمع السوري.
وفي الغالب، يميل مؤيدو الأسد أو معارضو الثورة لاستخدامه كأسلوب وذريعة تحت بند ضرورة توسيع المشاركة السياسية أو نقد الحكومة السورية على اعتبار أنّهم أكثر خبرة من معارضي الأسد، مع أن “الأدالبة” وفق التعبير السياسي الثوري أي “معارضو الأسد” لديهم خبرات واسعة وكثر منهم دراسو خارج سوريا في أرقى جامعات العالم، ولديهم خبرات مقبولة. وفي ذات السياق، يعتقد الرافضون لهذا الموقف أنّه يحمل بعداً مناطقياً، لكن في الحقيقة هو يحمل بعداً سياسياً، فالدمشقي المعارض، والحلبي المعارض، والحموي والحمصي والدرعاوي وأبناء الساحل والسويداء هم أدالبة بالنسبة لمؤيدي الأسد، وهم من يقصدهم فلول الأسد بتوصيف “القادمون من إدلب” وليس مناطقهم الجغرافية.
تعاني سوريا الجديدة، من إشكالية كبيرة في التعامل مع التفسخ الاجتماعي الكبير الذي خلفه نظام الأسد، وتجاوز سردياته التي بناها بما يخدم مصالحه على أسس تفتيت المجتمع السوري، ولعلّ أكثر ما يجب العمل عليه خلال الفترة القادمة، تجاوز سردية الأسد وبناء سردية وطنية جديدة تعيد تعريف فترة الـ14 عاماً، كسردية وطنية وليست فقط ثورية، بكونها ثورةّ دفع لأجلها الشعب السوري الكثير، وأن إدلب هي حالة سوريا ثائرة تشبه كل السوريين وليست سوداء، وإنما كانت الجغرافيا التي احتضنت كل السوريين الأحرار، وكانت مفترق طرق من أجل ولادة سوريا الجديدة الحرّة، وانهزام الأسدية.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية