جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يومٌ تاريخي في عمر سوريا، الاحتمالات قد تكون صحيحة، وقد تكون في بعضها خاطئة، الثابت أن الحكومة السورية تشكّلت لتواجه واقعًا معقدًا مليئًا بالتحديات والآمال.
لكن تشكيل الحكومة، بحد ذاته، ليس غاية، بل وسيلة. وسيلةٌ لاختبار قدرة المسؤولين على تقديم الحلول، وقياس مدى تجاوبهم مع احتياجات الناس، واستشراف ما إذا كانت سوريا تتجه نحو التغيير الفعلي أم إعادة إنتاج الماضي بصيغ جديدة. في هذه اللحظة الفاصلة، يصبح دور المواطنين محورياً، ليس فقط في المتابعة، بل في التفاعل والرقابة والمحاسبة.
المتابعة والمساءلة:
في بلدان ديمقراطية راسخة، لا يكون تشكيل الحكومة مجرد حدث إخباري، بل انطلاقة لماراثون طويل من الرقابة الشعبية. في بلجيكا، مثلاً، ينشغل الرأي العام بتحليل السير الذاتية للوزراء قبيل وفور تعيينهم، تُكتب المقالات حول خلفياتهم، يُقارن بين وعودهم وإنجازاتهم السابقة، بل حتى تُنشأ مواقع متخصصة في متابعة الأداء الحكومي.
في الولايات المتحدة، تخضع الحكومة لمتابعة دقيقة من الصحافة ومراكز الأبحاث، ويواجه الوزراء مساءلات علنية أمام اللجان البرلمانية، حيث لا مجال للمجاملات أو الهروب من الأسئلة الصعبة التي قد يطيح أحدها بمستقبل المسؤول السياسي.
أما في سوريا، فقد اعتاد المواطنون على استقبال التشكيلات الحكومية بنوع من اللامبالاة، وكأنها أمرٌ خارج نطاق التأثير الشعبي. هذه اللامبالاة ليست قدراً محتوماً، بل نتيجة تراكم طويل من الخيبات، حيث لم يُتح للسوريين، لعقود، أن يكونوا طرفاً فاعلاً في تقييم أداء حكوماتهم أو مساءلتها بفعالية. لكن اليوم السوريون ليسوا كما هم منذ أشهر، لقد حرروا بلدهم من نظام الأسد فازداد الوعي السياسي رسوخاً، ولم يعد السوري يقبل أن يكون متفرجاً في ظل شهوة جارفة للكلام والمشاركة.
إذا أرادت الحكومة الجديدة أن تنجح فعليها أن تدرك أن الشرعية لا تُمنح بالقرارات بل تُكتسب بالإنجازات. وإذا أراد المواطنون أن يكون لهم دور حقيقي فعليهم أن يتخلوا عن السلبية ويبدأوا بممارسة دورهم في الرقابة والمساءلة.
ربما هي المرة الأولى في تاريخ البلاد منذ تأسيسها التي يجلس فيها السوريون مستمعين إلى كلمات الوزراء، كلٌّ منَّا شعرَ أن المسؤول يقطع عهداً له بأن ينفِّذ استراتيجية وسياسة اختصرها بفترة زمنية تراوحت بين خمس وسبع دقائق، ولدينا الآن أرضية نستطيع من خلالها الحديث عن كل ما سيكون في خطة العمل المرتقبة.
لكن المتابعة الحقيقية لا تعني الاستماع إلى كلمات الوزراء من باب الاستهلاك الإعلامي، بل لفهم سياسات الإدارة وتوجُّهاتها. قراءة سيرهم الذاتية، ليس بدافع الفضول، بل لرصد خبراتهم السابقة وما إذا كانوا قادرين على حمل مسؤولياتهم. البحث في إنتاجهم السابق ومنجزهم، ومراجعة تصريحاتهم خلال السنوات الماضية، لاكتشاف مدى التزامهم بالمبادئ التي يعلنون الإيمان بها.
إن بناء مواطنة فاعلة في سوريا يبدأ من هنا، من إدراك أن الحكومات ليست كيانات مقدسة، بل أجهزة إدارية يُفترض أن تعمل لخدمة الشعب. لا بد من ثقافة سياسية جديدة، يكون فيها السؤال عن الأداء حقاً طبيعياً، والاحتكام إلى الأرقام ضرورة، ورفض الشعارات الفارغة واجباً وطنياً.
الدعم والنقد:
المعادلة الصعبة تكمن في الموازنة بين الدعم والنقد، دعم الحكومة لا يعني التصفيق الأعمى، كما أن نقدها لا يعني العداء. الدول تنهض حين يوجد توازن دقيق بين السلطة والمجتمع، بين الحاكم والمحكوم، بين المسؤولية والمحاسبة. هذا التوازن لم يأتِ بسهولة في الدول التي نجحت في ترسيخ الحريات. في ألمانيا، على سبيل المثال، لم تكن الدولة بعد الحرب العالمية الثانية مجرد نظام سياسي، بل عقداً اجتماعياً بين حكومة مسؤولة وشعب يقظ، يرفض الاستبداد ويراقب أداء ممثليه بوعي تام.
في غالبية دول الاتحاد الأوروبي، يُعدّ الوزراء مسؤولين مباشرين أمام المواطنين، وليس فقط أمام البرلمان. يمكن لأي مواطن أن يطلب تفاصيل حول أي قرار حكومي، ويمكن للصحافة أن تفتح أي ملف بلا قيود. هكذا تُبنى الدول الحديثة، لا على الخوف من المساءلة، بل باعتبارها جزءاً من الممارسة السياسية الطبيعية.
وفي سوريا، فإن تحقيق هذه المعادلة يحتاج إلى خطوات تدريجية. أولها، كسر حاجز الصمت، ليس بالضجيج الفارغ، بل بأسئلة جوهرية: ماذا سيفعل كل وزير؟ كيف سيتم تنفيذ المشاريع الموعودة؟ ما المعايير التي ستُستخدم لقياس النجاح أو الفشل؟ ثانيها، خلق قنوات حقيقية للمساءلة، سواء عبر الإعلام، أو عبر منصات تتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم، أو حتى من خلال البرلمان المرتقب إذا تمكن من أداء دوره الرقابي بفاعلية. أما الخطوة الثالثة، فتقوم على ترسيخ ثقافة سياسية جديدة، قوامها أن الوطن ليس ملكاً لحكومة أو فئة أو طائفة أو حزب، بل هو عقد اجتماعي مشترك، يقوم على الحقوق والواجبات. لا يمكن للحكومة أن تطلب الدعم من دون أن تقدم إنجازات، ولا يمكن للمواطن أن يكون شريكاً في الوطن إذا كان صوته غائباً أو مغيباً.
أرضية البناء:
إن بناء دولة حرة وقوية في سوريا لا يكون فقط عبر تغيير الحكومات، بل من خلال تغيير العلاقة بين الدولة والمجتمع. وهنا يمكن الاستفادة من التجارب العالمية التي مشت في طريق يقوم على مرتكزات عدة تبدأ من ضمان حرية الإعلام والمعلومات، ففي الدول التي تتمتع بحكومات ناجحة، يكون الإعلام شريكاً في الرقابة وليس مجرد وسيلة دعاية. يجب أن يتمكن الصحفيون في سوريا من العمل دون قيود، وأن تكون لديهم القدرة على طرح الأسئلة الجريئة دون خوف. لا يمكن لأي حكومة أن تنجح إذا لم تخضع للمساءلة الإعلامية الدائمة. الفترة الماضية التي تلت سقوط نظام الأسد دافع الصحفيون عن المساحات النقدية وتمسكوا بها. هذه الخطوة ليست رفاهية وإنما ضمان لبناء أرضية للمساءلة والبناء.
وهذا يقودني للإشارة إلى ضرورة إصلاح النظام القانوني لتعزيز المحاسبة، فلا يمكن الحديث عن حكومة ناجحة في ظل غياب قوانين تضمن الشفافية والمحاسبة. يجب تطوير قوانين تتيح للمواطنين الاطلاع على العقود الحكومية، والكشف عن مصادر الإنفاق، وتقديم شكاوى ضد أي مسؤول مقصّر. في هذا المضمار وفي ظل غياب البنية التحتية أو قصورها في بلد منهك، يلعب المجتمع المدني والحقوقي دوره كاملاً. ففي كل الدول الديمقراطية، يكون المجتمع المدني قوة فاعلة في التغيير، لأنه يخلق توازناً مع السلطة، ويعزز دور المواطنين في النقاش العام. وهذا الدور يتم دعمه عبر تعزيز ثقافة الحوار السياسي التي يجب أن تصبح جزءاً من النقاش اليومي للمواطنين. ليكون الاختلاف في الآراء مصدر قوة لا سبباً للصراع.
الطريق إلى المستقبل:
سوريا تقف اليوم عند مفترق طرق. يمكن أن تكون هذه الحكومة بداية لعهد جديد من العمل المؤسساتي الجاد، أو مجرد حلقة أخرى في سلسلة من الخيبات. المفتاح بيد السوريين أنفسهم: هل سيكونوا مراقبين سلبيين أم فاعلين في رسم مستقبل بلادهم؟
إذا أرادت الحكومة الجديدة أن تنجح، فعليها أن تدرك أن الشرعية لا تُمنح بالقرارات، بل تُكتسب بالإنجازات. وإذا أراد المواطنون أن يكون لهم دور حقيقي، فعليهم أن يتخلوا عن السلبية، ويبدأوا بممارسة دورهم في الرقابة والمساءلة.
ما بين الدعم والنقد، بين الأمل والشك، يتحدد المسار. سوريا لا تحتاج إلى أوهام جديدة، بل إلى واقع مختلف، واقع تُبنى فيه الدولة على أسس متينة من الحرية والعدالة والمشاركة الفاعلة.
ولنا في التاريخ عبر ووقفات، ففي التاسع والعشرين من آذار من عام 1949 م قاد الجنرال حسني الزعيم أول انقلاب عسكري على الرئيس شكري القوتلي، وفتح بذلك باباً للانقلابات العسكرية التي ترتَّبت بعدها كل الدكتاتوريات التي حكمت سوريا حتى سقوط الأسد، وفي ذات اليوم بعد 75 عاماً وفي ذات الليلة التي تحرَّكت فيها الدبابات لقتل الشرعية الرئاسية، في التاسع والعشرين من آذار من عام 2025 م تشكَّلت الحكومة التي سيكون على عاتقها منع سوريا من العودة إلى الماضي الأليم.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية