«نبض الخليج»
قبل عدة أسابيع بدت الشكوك قوية في عدم حضور وزير الخارجية الشيباني مؤتمر بروكسل للمانحين. الغياب له دلالات كبيرة في اهتزاز علاقة النظام الجديد بالقوى الدولية الفاعلة، خصوصاً الغربية: الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. تعززت تلك الشكوك بتصريحات الخارجية، التي رفضت ربط المؤتمر بقرارات تتصادم مع السيادة السورية، خصوصاً أن ذلك الرفض خرج قبل يومين من انعقاد المؤتمر.
عدد من الصحفيين والناشطين السوريين حذّر من تلك اللغة الخشبية التي تذكرنا بخطاب الممانعة الناري في عهد الأسد، وأن الدولة السورية الوليدة أضعف من أن تتفاوض على بنود، وتنتزع تنازلات في المحافل الدولية. ولكن ما حدث تالياً من حضور الشيباني إلى المؤتمر، وإعلان بنود أولية من المانحين طرح مقاربة أخرى لطبيعة العلاقة الغربية مع النظام الجديد، أو ما يريده الغرب من دمشق.
صحيح أن الموقف أو لنقل المواقف الأميركية المتعددة ملتبسة وغير واضحة: فمن تصريح الخارجية الأميركية التي تريد حكومة أكثر تنوعاً، وتريد أن ترى تقدماً في العملية الدستورية، إلى ويتكوف موفد ترامب للشرق الأوسط الذي يريد تعاوناً مع دمشق لإحلال السلام في الشرق الأوسط؛ ـ وهو يقصد المحور الإسرائيلي ـ، إلى مقترحات لبعض المشرعين الأميركيين عن ضرورة رفع العقوبات الأميركية لتحريك عجلة الاقتصاد السوري المتهالك. ولكن اللافت أنها كلّها من وجه آخر لا تطعن في شرعية النظام في دمشق، وإنما في ممارسة الضغوط لضمان الانفكاك عن “هيئة تحرير الشام” وفكرة الجهاد المعولم، إضافة إلى شروط أخرى ترتبط بالأهداف الأميركية الاستراتيجية في المنطقة، أكثر مما يتعلّق بنظام دمشق وبيته الداخلي. يؤكد ذلك عملياً دفع الإدارة الأميركية لـ”قسد” على إبرام “اتفاق ما” مع الحكومة المركزية. وهذا الاتفاق الذي سيق على عجل، يؤكد اعتبار واشنطن شرعية حكومة دمشق رغم التحفظات.
لم يخالف الموقف الأوروبي نظيره الأميركي. فبعد مؤتمر بروكسل، توجهت وزيرة الخارجية الألمانية مباشرة إلى دمشق. الطلبات الأوروبية مشابهة للأميركية، يضاف إليها موضوع اللاجئين السوريين في أوروبا. وهذا ربما يفسر حضور الشيباني لمؤتمر بروكسل، الذي ترافق مع تسريبات صحيفة بيلد الألمانية عن مفاوضات سرية بين دمشق وبرلين بشأن عودة اللاجئين، تلاه موعد زيارة لوزيرة الداخلية الألمانية تمّ تأجيلها لاعتبارات أمنية. وكما نعلم فإن هذه المفاوضات تتم باسم الأوروبيين عموماً، رغم المشاكسات الفرنسية في الجزيرة السورية؛ لأن أي اتفاق بهذا الخصوص سوف يتم تحت سقف الاتحاد الأوروبي وقوانينه الخاصة باللجوء.
حضرت وزيرة الخارجية الألمانية افتتاح سفارتها في دمشق، رغم التقييمات الأمنية الخطرة. ذلك الاستعجال الذي يدفع نحو تطبيع العلاقات ورفع سوية التبادل الدبلوماسي رغم العقبات، يعطينا فكرة عن الاتجاه والمدى الذي ترغب ألمانيا ومن خلفها أوروبا الذهاب فيه.
المفاوضات حسب الصحف الألمانية ستتركز على تمويل بديل لإعادة الإعمار، ريثما يتم حلحلة ملف العقوبات الدولية، والأميركية منها خصوصاً. البدائل مشابهة لما كانت عليه على عهد النظام البائد: برامج التعافي المبكر، تمويل الجمعيات الخيرية والتعليمية، دعم القطاع الصحي إضافة إلى وصول محدود للبنك المركزي لدعم البنية التحتية الأساسية من كهرباء وصحة كما صرحت وزيرة الخارجية الألمانية. إعادة اللاجئين أو الحدّ من موجة اللجوء السوري، والتعاون الأمني في ذلك الملف سيكون على طاولة أي محادثات أوروبية ـ سورية. فقد حضرت وزيرة الخارجية الألمانية افتتاح سفارتها في دمشق، رغم التقييمات الأمنية الخطرة. ذلك الاستعجال الذي يدفع نحو تطبيع العلاقات ورفع سوية التبادل الدبلوماسي رغم العقبات، يعطينا فكرة عن الاتجاه والمدى الذي ترغب ألمانيا ومن خلفها أوروبا الذهاب فيه. فموضوع اللجوء أصبح من صلب السياسة الداخلية الألمانية، ويهدد بتفكك الاتحاد الأوروبي. ورغبة الأوروبيين في استقرارا المنطقة تعلو على كافة الصراعات والمشاكل الأخرى.
طبعا لم تخفِ الوزيرة أهدافها وطلباتها في دمشق: الاستقرار ومكافحة التطرف وضبط الفصائل تحت سلطة الدولة، ضبط الجهاديين، وعودة الخدمات الأساسية. وهنا بيت القصيد؛ فالاستقرار واستعادة الخدمات الأساسية يتيح للدولة الألمانية إعادة تقييم الوضع في سوريا وتصنيفها دولة آمنة، مما يوقف طلبات اللجوء قانونياً وتستطيع إعادة اللاجئين الذين يحملون الإقامة المؤقتة، مما يسحب هذه الورقة من أحزاب اليمين المتطرف، ويقدمها إنجازاً يحدّ من تأييده. المهم هنا أن ألمانيا ترى في نظام دمشق الآن شريكاً قوياً وقادراً على ضبط الأوضاع على الأرض، وقادراً على إبرام الاتفاقات وتنفيذها.
الرغبة الأوروبية هذه دفعتهم لتفهم أحداث الساحل وتوجيه إدانة “منضبطة” للأخطاء التي جرت، وعدم الاستعجال في إطلاق الاتهامات ضد الحكومة السورية بارتكاب مجازر جماعية، وإنما أعطته التوصيف الحقيقي، مع إدانة حوادث القتل التي جرت من أي طرف كان.
تجدر الإشارة هنا في بند بناء الشراكة والموثوقية طلب الوزيرة “ضبط الفصائل الجهادية”. فمن غير المألوف الحديث عن الأمور الأمنية علناً وخصوصاً ما يتعلق بالفصائل الجهادية. وهذا من الاستعجال الأوروبي لإنجاز أكبر قدر من الخطوات على صعيد اللجوء في سبيل التفرّغ للصراع الروسي. الرغبة الأوروبية هذه دفعتهم لتفهم أحداث الساحل وتوجيه إدانة “منضبطة” للأخطاء التي جرت، وعدم الاستعجال في إطلاق الاتهامات ضد الحكومة السورية بارتكاب مجازر جماعية، وإنما أعطته التوصيف الحقيقي، مع إدانة حوادث القتل التي جرت من أي طرف كان.
مع إعلان التشكيل الحكومي كانت ألمانيا من أولى المرحبين بالحكومة الجديدة. أعلن المبعوث الألماني إلى سوريا، ستفن شنيك، عن استعداد بلاده لدعم السوريين في “مداواة جراحهم وإعادة بناء بلدهم”. القبول الإقليمي والإشادة الأوروبية تبني رصيداً جديداً لدى نظام دمشق، ويفتح أبواباً أخرى على صعيد العلاقات الدبلوماسية والانفتاح الدولي على دمشق. وهكذا يكون الرئيس الشرع قد نجح حتى الآن في ثلاثة اختبارات: إسقاط نظام الأسد بأقل قدر من الفوضى والدم، تشكيل حكومة تكنوقراط مبشرة وواعدة وبذلك ضمن عدم سقوط الدولة السورية برحيل النظام السابق، وقبول القوى الإقليمية وجزء من المجتمع الدولي بسوريا ونظامها الجديد. فهل تفتح هذه الخطوات الباب مستقبلاً أمام الاعتراف الدولي الكامل؟
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية