«نبض الخليج»
مع خروج إيران من الساحة السورية عقب سقوط النظام، تجد طهران نفسها أمام تحوّل استراتيجي غير مسبوق. فقد خسرت موطئ قدم كان يمثل أحد أهم ركائز سياستها الإقليمية، وأداة نفوذ مؤثرة في توازنات المنطقة. هذه الخسارة جاءت في وقت تواجه فيه إيران ضغوطاً متزايدة على أكثر من جبهة، لا سيما ملفها النووي المتعثر، مما يضع القيادة الإيرانية أمام معادلة معقدة تجمع بين الانكفاء الإقليمي والتصعيد الداخلي والدولي.
رغم هذا التغير الجذري، لم يُظهِر الخطاب الإيراني الرسمي أي مؤشر على مراجعة حقيقية للسياسات السابقة، بل بقي متمسكاً بنفس العبارات والمقولات التي كانت تُستخدم في سياقات سابقة، ولم تعد قابلة للتسويق أو التأثير. فقد واصل مسؤولون إيرانيون، من بينهم مستشارون بارزون للمرشد، التأكيد على أن “سوريا جزء من الأمن القومي الإيراني”، في حين توعد ضباط كبار بردود دموية على ما وصفوه بـ”التحولات الخطيرة” في سوريا، في محاولة للتأكيد على استمرار الاهتمام الإيراني بالشأن السوري رغم الانسحاب الفعلي.
يُقرأ هذا الخطاب في سياق صراع على النفوذ، لا يعكس فقط القلق من خسارة حليف، بل يُظهر أيضاً مأزقاً أعمق يتمثل في عجز المؤسسة الإيرانية عن التكيّف مع الواقع الجديد في سوريا، حيث تقود مرحلة انتقالية ذات طابع وطني، بعيداً عن معادلات المحاور الإقليمية التقليدية. ويبدو أن كل تقدم تحرزه سوريا نحو الاستقرار السياسي أو استعادة مؤسسات الدولة يُنظر إليه في طهران كمؤشر إضافي على تآكل النفوذ الإيراني.
في ظل هذا الواقع، تميل إيران إلى تكثيف الرسائل الإعلامية التحذيرية والتضخيم الإعلامي لأي حدث داخلي في سوريا، بهدف التشويش على مسار التحول الجاري، وخلق مناخ قلق يعيد إنتاج الحاجة إلى الدور الإيراني. إلا أن هذه المقاربات تبدو اليوم أقل فعالية من أي وقت مضى، وسط وعي محلي وإقليمي بتكاليف الحقبة الماضية، وإرادة واضحة للخروج منها نحو مرحلة مختلفة.
دافعنا عن أمننا القومي في سوريا وقمعنا العدو خارج حدودنا
في جزء من حديثه المطول للتلفزيون الإيراني حول المفاوضات النووية، اعتبر علي لاريجاني، مستشار خامنئي، أن وجود إيران في سوريا كان “بهدف محاربة الإرهاب”. وأضاف قائلاً: “عملنا على مصالحنا الوطنية في سوريا، ومسألة مكافحة الإرهاب كانت قضية أمن قومي لدول المنطقة. قمنا بتأمين إيران وقمعنا العدو خارج حدود إيران”.
وتتجاهل تصريحات لاريجاني حقيقة بأن إيران كانت تسعى من خلال تدخلها في سوريا إلى فرض نفوذها الإقليمي كجزء من مشروع طويل الأمد لبسط الهيمنة في المنطقة.
وفي تصريح مثير للجدل حينها، برر مهدي طائب، المسؤول الاستخباراتي السابق في الحرس الثوري الإيراني، التدخل الإيراني مع دخول الثورة السورية عامها الأول، إذا اعتبر أن “سوريا هي المحافظة الخامسة والثلاثون لإيران” وأنها “بقعة استراتيجية” بالنسبة لها. وأضاف: “إذا هاجمَنا عدو وكان يسعى للسيطرة على سوريا أو خوزستان، فإن الأولوية ستكون للحفاظ على سوريا. وإذا خسرنا سوريا، لن نتمكن من السيطرة على طهران”.
وحاول لاريجاني التقليل من تكاليف تدخل إيران في سوريا وتأثيرات ذلك على الشعب السوري، مبرراً ذلك بالمصالح الوطنية، وقال: وسائل الإعلام الغربية تتحدث كثيراً أن إيران أنفقت الكثير من الأموال في سوريا، فما حدث؟، هذا هو نص اجتماعاتهم. والآن عليهم أن يلاحظوا أننا عملنا من أجل مصالحنا الوطنية.
وأضاف لاريجاني: قضية مكافحة الإرهاب بالنسبة لنا كانت قضية أمن قومي. وكانت كذلك بالنسبة لروسيا، وكانت أيضًا بالنسبة للعراق، وكانت أيضًا بالنسبة لسوريا.
وفي محاولة للتقليل من مسؤولية إيران عن الجرائم التي ارتكبتها في سوريا، خاصة عبر الميليشيات المدعومة من طهران، قال علي لاريجاني: “هل المنطق يقتضي أنه عندما تكون المشكلة تتعلق بأربع دول يجب أن نتعاون لمكافحة الإرهاب، أم نقول لأننا لا نوافق على بعض أفعال سوريا أو روسيا، فلا نتعاون معهما؟ العقل السليم يختار التعاون”.
ويعكس تصريح لاريجاني محاولته تحوير الواقع وإبعاد إيران عن مسؤوليتها تجاه ما حدث في سوريا، رغم دورها الفاعل والمباشر في تأجيج الصراع ومساندة النظام السوري في ارتكاب الجرائم ضد المدنيين.
وكانت مجموعة هكر إيرانية معارضة مقربة من منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة قد كشفت العام الماضي عن أن ديون إيران على نظام الأسد فاقت خمسين مليار دولار؛ وبينت الوثائق كيف أن طهران سيطرت حينها على قسم من الموارد والثروات السورية لاسترداد جزء بسيط من ديونها.
وفي إشارة مبطنة للتعاون الروسي الإيراني لقمع ثورة الشعب السوري، رأى لاريجاني أنه من الطبيعي أن يكون التعاون في هذه الحالة أقل تكلفة.
وكان الصحفي الإيراني شمس الواعظين قد أقر عام 2022 بأن روسيا كانت تعمل بمثابة القوات الجوية لإيران في سوريا، في إشارة إلى الدعم الجوي الذي قدمته روسيا للمليشيات الإيرانية على الأرض.
وبحسب تقارير موثقة، كان لهذا التعاون المشترك بين إيران وروسيا له تبعات كبيرة على الأرض السورية حيث تداخلت مصالح البلدين في تدمير المجتمع السوري تحت شعار محاربة الإرهاب.
وفي إنكار واضح لتضحيات السوريين، حاول علي لاريجاني التقليل من معاناة الشعب السوري في ظل التدخل الإيراني، حيث أكد أن أولويات طهران كانت تأمين وحماية إيران، معتبراً أن دورهم في سوريا كان من أجل قمع “العدو” خارج حدودهم. وأضاف أن هذا التدخل كان ضمن “الخطة الصحيحة” التي حققت مصالح إيران الأمنية في المنطقة.
وتتناقض تصريحات لاريجاني الأخيرة مع فحوى رسالة خامنئي التي حملها لبشار الأسد قبل سقوطه بشهر تقريياً، إذ تخلو تصريحات لاريجاني حول سوريا من التزام طهران بدعم محور المقاومة والوقوف مع الشعوب المضطهدة، لتركز أكثر على مصالح إيران الخاصة.
وكان لاريجاني قد ادعى أن رسالة خامنئي التي حملها للأسد ولاقت ترحيبا وقبولاً منه قبل سقوطه بأسابيع تضمنت أفكاراً لحل القضايا والتحديات الراهنة والصمود على هذا الطريق، آملاً أن تترك هذه الرسالة تأثيرها الكامل.
وزعم لاريجاني حينها أن الرسالة أكدت على التمسك بـ”العوامل التي قادت إلى نجاحات المقاومة سابقاً، وتعزيز الصمود في مواجهة التحديات”، إلا أن تصريحات العميد بهروز اثباتي، آخر ضابط إيراني خرج من سوريا، كشفت عن خيانة تعرضت لها إيران من قبل روسيا في سوريا، مشيراً إلى تصريحات مهينة للأسد وعائلته، فضلاً عن محاولات الأخير تقييد نفوذ طهران في البلاد.
وكان تلفزيون سوريا قد كشف في وثيقة مسرّبة حصل عليها قبل أيام عن اعتقال جواد حشمتي، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وزوجته من قبل مخابرات النظام السابق بتهمة تهريب أسلحة إلى الأراضي الفلسطينية، مما عكس التوتر الكبير الذي بلغته العلاقة بين طهران والنظام السوري قبل سقوط الأسد بأربعين يوماً فقط.
موضوع سوريا لن يطول كثيراً لكن الأمر يتطلب الكثير من الدماء
وعطفاً على تصريحات خامنئي الأخيرة حول سوريا وتهديداته للإدارة السورية الجديدة، حذر العميد محمد جعفر أسدي، أحد كبار القادة العسكريين الإيرانيين السابقين في سوريا، في مقابلة على التلفزيون الإيراني، من أن أحداث مهمة جداً ستقع على صعيد المنطقة في أقرب وقت.
وخلافاً لما يتوقعه أسدي على الصعيد الإقليمي، كانت الولايات المتحدة قد أعلنت عن رسالة غير مسبوقة بعثها الرئيس الأمريكي للمرشد الأعلى خامنئي يضعه بين خيارين صعبين: إما الاتفاق على الملف النووي أو مواجهة المصير العسكري.
وكان المرشد الأعلى الإيراني علي خامئي قد زعم بظهور ما وصفه ب”المجموعة الشريفة والغيورة” في سوريا لاستعادة سوريا، قبل أن تبدأ أحداث الساحل السوري الدموية بتحرك فلول النظام البائد بأسابيع. وفي لقاء له مع صحيفة “فرهيختغان” الإيرانية قبل أيام فقط من بدء تمرد الساحل، زعم علي أكبر ولايتي، مستشار خامنئي الآخر، أن الاستعدادات للتفكك قد بدأت في سوريا، متوقعاً أن تشهد سوريا اندلاع حرب أهلية في أي لحظة!
وفي تتمة حديثه، أضاف العميد أسدي: شعوب المنطقة شعوب قادرة وسيكون لهم مستقبل مشرق لكن من أجل مستقبل العزة الذي ينتظرهم اعتقد أن الموضوع يحتاج للكثير من التضحيات والدماء والعذابات كتلك التضحيات والدماء التي قدمناها لانتصار ثورتنا وانفجار النور الذي حدث وأنار المنطقة كلها.
وأشار أسدي إلى أن الشعب سيسير على نفس المسار الذي خطته الجمهورية الإسلامية عندما تخلصت من ظلم الشاه. وفي تهديد مبطن، رأى العميد أسدي أن “الموضوع لن يطول كثيراً”.
وفي ذات السياق، تابع قائلاَ: “نحن للأسف أشخاص عجولون ونعتقد أن بعض الأحداث يجب أن تأخذ أسبوعا أو سنة لكي نحصل على نتيجة، لكن بالتأكيد ستقع أحداث مهمة جدا على صعيد المنطقة في أقرب وقت”.
وفي كلمته أمام اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول الوضع في سوريا، ادعى أمير سعيد إيرواني، السفير والممثل الدائم للجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى الأمم المتحدة، أن إيران تظل ملتزمة بدعم سيادة سوريا ووحدة أراضيها، زاعماً أن إيران لا تشارك في أي أعمال تزعزع الاستقرار في سوريا أو المنطقة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية