جدول المحتويات
«نبض الخليج»
شكّل صعود حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 تحولاً محورياً في تاريخ سوريا الحديث، منهياً عقوداً من الاضطرابات السياسية، ومُدشّناً حقبة من الاستقرار الاستبدادي. وقد أدت جملة من العوامل السياسية والاجتماعية والعسكرية إلى ترسيخ الأسد لسلطته، عبر توظيف الديناميكيات الطائفية في سوريا، وبناء جهاز عسكري موال، وقد أسهمت جملة من العوامل في ترسيخ الحكم الاستبدادي للأسدين الأب والابن، منها:
1. عدم الاستقرار بعد الاستقلال
بعد استقلال سوريا عام 1946، عانت البلاد حالة عدم استقرار مزمنة، شهدت أكثر من 20 انقلابًا بين عامي 1949 و1970، وقد أسس انقلاب حزب البعث عام 1963 نظامًا ذا توجه اشتراكي يقوم على مبادئ الاشتراكية القومية العربية، منقسمًا بشدة بين جناحيه القطري والقومي. وقد أوصل الانقلاب الجناح القطري الذي يهيمن عليه الجيش إلى السلطة، مما أدى إلى تهميش مثقفين مثل ميشيل عفلق، الذي شدد على الوحدة العربية، كما ارتقى حافظ الأسد، الذي كان آنذاك ضابطًا شابًا في سلاح الجو، داخل اللجنة العسكرية لحزب البعث، الذي أعطى الأولوية لبناء الدولة على النقاء الأيديولوجي، وبحلول عام 1966، استولى الماركسيون المتطرفون بقيادة صلاح جديد على السلطة، وسعوا إلى إصلاحات زراعية صارمة، واستعداء النخب الحضرية والمحافظين الدينيين، وقد أدت سياسات جديدة إلى نفور كلٍّ من ملاك الأراضي السنة التقليديين والقادة العسكريين البراغماتيين مثل الأسد، الذين اعتبروا تطرفه مزعزعًا للاستقرار.
2. التشرذم الطائفي والسخط الاجتماعي
أدى نظام المِلّة في سوريا خلال الحقبة العثمانية وسياسات الانتداب الفرنسي (1920-1946) إلى ترسيخ الهويات الطائفية، وقد عمد الفرنسيون إلى رفع مكانة الأقليات مثل العلويين والدروز لمواجهة القومية العربية السنية، وبعد الاستقلال، هيمنت النخب الحضرية السنية على المشهد السياسي، لكن الأقليات الريفية – التي طال استبعادها من الفرص الاقتصادية والتعليمية – توافدت إلى الجيش، وقد عدَّ العلويون الجيش سبيلًا للحراك الاجتماعي، وبحلول عام 1963، شكّل العلويون 60% من ضباط الصف في الجيش السوري، مما مهد الطريق لصعود الأسد.
3. حرب الأيام الستة عام 1967 وأزمة الشرعية
أدت الخسارة الفادحة لمرتفعات الجولان أمام إسرائيل عام 1967 إلى تشويه سمعة النظام البعثي، مما أدى إلى تفاقم السخط الشعبي. أدى رفض جديد معالجة نقاط الضعف العسكرية إلى نفور ضباط مثل الأسد، الذين انتقدوا سوء إدارة الحكومة. أتاحت هذه الأزمة للأسد فرصةً لدعم الإصلاح والاستقرار.
أدى ضعف سوريا الجيوسياسي إلى تفاقم انقساماتها الداخلية. حطمت حرب الأيام الستة عام 1967 مصداقية النظام، إذ كشف احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان عن عجز عسكري. وتناقض رفض جديد إعادة بناء الجيش، خوفًا من انقلاب، مع دعوات الأسد لإعادة التسلح. في غضون ذلك، شكلت تنافسات الحرب الباردة تحالفات سوريا: مال جديد نحو الاتحاد السوفييتي والفصائل الفلسطينية الراديكالية، بينما استمال الأسد الدعم السوفييتي لكنه أعطى الأولوية لمصالح الدولة البراغماتية. وقد شكلت أزمة أيلول الأسود عام 1970 في الأردن، حيث رفض الأسد التدخل عسكريًا ضد الملك حسين، قطيعة معه، وجعلته قائدًا واقعيًا.
4. الحركة التصحيحية عام 1970
مثّل انقلاب الأسد الأبيض ضد جديد في نوفمبر 1970 ذروة الصراع الداخلي داخل حزب البعث. وقد برر الأسد الاستيلاء على السلطة بأنه “حركة تصحيحية” لاستعادة مبادئ الحزب والوحدة الوطنية. وقد تم ضمان ولاء الجيش من خلال شبكات المحسوبية والتعيينات الاستراتيجية، بما في ذلك شقيقه رفعت الأسد، الذي قاد سرايا الدفاع المرعبة. اعتمد ترسيخ الأسد لسلطته على تحويل الجيش العربي السوري إلى قوة موالية. بصفته وزيرًا للدفاع (1966-1970)، قام بتطهير الضباط السنة. ووُضعت وحدات رئيسية – مثل اللواء المدرع السبعين والقوات الخاصة – تحت قيادة قادة علويين، بمن فيهم شقيقه رفعت. وبحلول عام 1973، سيطر العلويون على 80% من المناصب العسكرية العليا في الجيش العربي السوري، مما أدى إلى ترسيخ نواة طائفية صلبة اعتمد عليها لحماية نظامه من أي تهديد داخلي؛ ليغدو الجيش أهم أداة من أدوات تكريس الاستبداد وضمان استمراره.
5. مأسسة الولاء الطائفي
أُسندت مسؤولية المؤسسات الأمنية الحيوية – الحرس الجمهوري، والمخابرات الجوية، والمخابرات العسكرية – إلى الموالين العلويين وأفراد عائلاتهم. ضمنت هذه العسكرة الطائفية بقاء النظام، لكنها رسخت الانقسامات الطائفية، مما أدى إلى نفور المجتمعات السنية، وزرع بذور الصراع المستقبلي، لمنع الانقلابات، أنشأ الأسد أجهزة أمنية متداخلة موالية له، منها: المخابرات الجوية (بقيادة محمد الخولي): راقبت المعارضة الداخلية، والمخابرات العسكرية (علي دوبا): استهدفت المعارضين السياسيين، وسرايا الدفاع (رفعت الأسد) وهي عبارة حرس بريتوري قوامه 55,000 فرد، مكلف بحماية النظام، وقد عملت هذه المؤسسات خارج التسلسل القيادي الرسمي، مما ضمن عدم تمكّن أي ضابط من معارضة الأسد.
6. السياسة الخارجية كعامل استقرار داخلي
عززت مناورات الأسد الإقليمية قبضته الداخلية؛ إذ سمح التدخل في لبنان عام 1976 للنظام باستغلال الموارد اللبنانية مع تصدير المعارضة إلى لبنان، وإحكام القبضة الأمنية على لبنان، كما أمّن تدخل النظام السوري في حرب الخليج عام 1991 مع الولايات المتحدة مساعدات مالية من دول الخليج، مما خفف مؤقتًا من الضغوط الاقتصادية.
7. الحكم الاستبدادي والسيطرة على الشعب السوري
اعتمد نظام الأسد على المراقبة الشاملة من قبل المخابرات لقمع المعارضة. وجسّدت مذبحة حماة عام 1982، التي أودت بحياة ما بين 30 آلاف و40 ألف مدني تكتيكاته الوحشية، كما تعرضت أحزاب المعارضة والنقابات وحريات الصحافة للقمع الممنهج، كما تسللت المخابرات إلى كل جانب من جوانب الحياة السورية، فضلاً عن عمليات المخبرين في الأحياء، وعضوية الحزب الإلزامية لموظفي الخدمة المدنية، والرقابة على الإعلام والتعليم، مناخًا من الخوف، وفرض “القانون 49” لعام 1980 عقوبة الإعدام على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، مما أدى إلى تقليص المعارضة الإسلامية السنية.
وقد مزج حافظ الأسد بين اشتراكية الدولة والتحرير الاقتصادي المحدود، مكافئًا الموالين من خلال رأسمالية المحسوبية، التي عززت الإصلاحات الزراعية ومشاريع البنية التحتية في المناطق الريفية، في حين هُمّش السنة في المناطق الحضرية، وبحلول تسعينيات القرن الماضي، أدى الركود الاقتصادي والفساد إلى تآكل الاقتصاد السوري وتدمير قدرته على النمو، مما شكل عامل ضغط خانق على الشعب السوري.
8. عبادة الشخصية والبراغماتية الإيديولوجية
رسّخ الأسد صورة “الأب القائد”، مؤكدًا على الاستقرار والقومية العربية. وازن بين الخطاب القومي العربي والسياسة الواقعية، فانحاز إلى الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، وانضم إلى التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في حرب الخليج عام 1991. روّجت وسائل الإعلام الحكومية والتعليم لأساطيره، مصورةً إياه على أنه لا غنى عنه لبقاء سوريا، وقد تركت سلطة الأسد المركزية سوريا غير مهيأة للتوريث؛ إذ ورث بشار الأسد الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، والذي يفتقر إلى الخبرة العسكرية، نظامًا يعتمد على أسطورة والده، واستمر بشار في نهج القمع الاستبدادي من دون الالتفات إلى المتغيرات التي أصابت المجتمع السوري داخلياً، والتحولات الجيوسياسية خارجياً، وكلما ازداد الاحتقان الداخلي أمعن بشار في توظيف الأجهزة الأمنية القمعية لإخماد أية مطالب في الإصلاح السياسي، وقد تجلى ذلك في أوضح صوره في انقلابه على الوعود التي أطلقها إبان توليه الحكم عام 2000؛ إذ رفع شعار التطوير والإصلاح السياسي، وما لبث أن عاد إلى اضطهاد المعارضين مع إعلان دمشق، الذي طالب بالإصلاح السياسي والمجتمعي لتجنيب سوريا نتيجة الاستمرار في النهج الاستبدادي.
وأخيراً، فقد جسّد نظام حافظ الأسد “ديمومة الديكتاتوريات” في المجتمعات الممزقة، فمن خلال تسليح الطائفة، وعسكرة الدولة، وموازنة القمع بالمحسوبية، حقق استقرارًا متوسط المدى على حساب تمزُّق مجتمعي طويل الأمد، وقد سهّل التقلب السياسي في سوريا، والانقسامات الطائفية، والعسكرة الماهرة للولاء العلوي صعود حافظ الأسد إلى هرم السلطة، وقد ضمن حكمه الاستبدادي، الذي مزج القمع بالمحسوبية الانتقائية، ثلاثة عقود من الاستقرار على حساب الحريات المدنية والتماسك الاجتماعي. إلا أن الأسس الطائفية لحكمه رسخت الانقسامات التي اندلعت بعنف بعد وفاته عام 2000، مما شكل المسار المأساوي لسوريا في عهد ابنه بشار الأسد، ويؤكد إرث الأسد على خطورة الخلط بين استقرار الدولة والاستبداد؛ إذ يُبرز نظام الأسد مفارقة جوهرية: فالأنظمة الاستبدادية غالبًا ما تزرع أسباب زعزعة استقرارها من خلال تعميق الانقسامات التي تدّعي تجاوزها، وإنّ الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 كانت تتويجاً لخمسة عقود من الإقصاء المنهجي والانحلال المؤسسي.
كل تلك العوامل تفسر الضعف الكبير الذي تعانيه سوريا على الرغم من سقوط النظام البائد؛ إذ أسهمت وحشية النظام في تدميره المدن، وقتل المدنيين بشكل ممنهج إلى تدمير البنية التحتية والكوادر البشرية، الأمر الذي يجعل الحكومة الجديدة التي تشكلت قبل أيام أمام تحديات كبيرة تتطلب تظافر الجهود الداحلية والإقليمية والدولية لإعادة إعمار سوريا بشكل يخفف من وظأة الكوارث التي عانى منها الشعب لأكثر من خمسة عقود.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية