جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يشير مفهوم الوطن إلى وجود ارتباط جماعي بإقليم معين، وما يتراكم على ذلك من عنصر ضميري يتمثل في أن هذا الإقليم دار الآباء والأجداد، فالجماعات الإنسانية حينما راحت تتجه إلى الاستقرار في بقاع معينة من الأرض ارتبطت بأقاليم جغرافية محددة ارتباطاً شديدا تبعا لما تقدمه هذه الأقاليم من موارد طبيعية تمكنها من الاستقرار. من هنا، لاحظ بعض الدارسين أن الأقاليم أو البلدان التي تحل بها الكوارث، أو ينعدم فيها الأمان، أو تصبح مواردها شحيحة لا تعود محببة لساكنيها. بمعنى أن مستوى الوطنية ينخفض لدى سكان بعض البلدان.
الوطنية والاستبداد
رغم أن الشعوب اعتادت – بالعموم – أن تراكم في ثقافاتها عبارات وشعارات توحي بحب الوطن والوطنية، إلا أن ذلك قد يكون اعتيادا أو تلقينا لا يعكس الواقع في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى يستخدم مفهوم الوطنية (من حب الوطن) كأسلوب للمزاودة أو القهر، ففي الأنظمة الاستبدادية – على سبيل المثال – تحتكر سلطة الاستبداد التي تحرق الوطن جهارا نهارا صفة الوطنية وتقوم بتوزيع نياشين الوطنية للأكثر ولاء لها. أي، لأولئك الذين يشاركونها وليمة نهش جثمان الوطن، ويجعلون من تعاملها مع الوطن كغنيمة أو كمزرعة سلوكا طبيعيا من خلال تلك المشاركة. وعلى المقلب الآخر تجد المواطن يشتم البلد كلما صادفه موقف مزعج، ففي شوارع المدن السورية – قبل الثورة – يكاد لا يمر يوم لا تسمع فيه شتيمة للبلد تأتي على لسان شخص غاضب. أما بعد الثورة وما تسببت به الأحداث الدامية من هجرة كثير من السوريين، نجد أن كثيراً من هؤلاء المهاجرين يعبر عن عدم رغبته بالعودة إلى أرض الوطن رغم سقوط النظام الذي تسبب بهجرتهم، ورغم أن الوطن في مفرداتهم جنة الله في الأرض.
تشير الحقائق والوقائع إلى أن الفئات التي وقفت وراء ذلك النظام ودعمته كانت من الفئات البرجوازية المطعمة ببقايا الإقطاع والملاكين العقاريين، وهؤلاء على حد تعبير المناضل الكبير عبد البر عيون السود نظروا إلى تحقيق الاستقلال وكأنه نهاية المطاف، فانصرفوا إلى قطف الثمار متناسين نضال الشعب السوري من أجله طوال ربع قرن
سوريا ليست كما نتصور
إن سوريا على حقيقتها ليست كما نتصور، لكنها تماما كما صورها “رايموند هينبوش” بقوله: “لقد قرر الموقع الجغرافي لسوريا قدرها التاريخي. إن كونها جسرا بريا بين قارات ثلاث ووقوعها وسط الصحراء والسهوب قد عرضها لتحركات أعراق متعددة ولغزوات القبائل البدوية، والتي ولدت (التنقلات والغزوات) تعددية ثقافية اجتماعية. إن التركيبة الجغرافية المعقدة لسوريا شكلت أساسا بيئيا لتعددية اقتصادية اجتماعية عززت بدورها الاختلاف الثقافي. هذه التعددية، والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة، ولم تولد نظاما شاملا موحدا ينتج قوى مكافئة تشاركية. كما أن سوريا، التي كانت جائزة تنازعتها الإمبراطوريات المتنافسة، وربما بسبب موقعها المكشوف، لم تشهد عبر التاريخ قيام دولة متأصلة قادرة على توحيد مجتمع كهذا ينزع إلى الابتعاد عن المركز.
تاريخ سياسي مزور
وليس الواقع الاجتماعي والثقافي وحده ما يحاول السوريون غض الطرف عنه أو تجاهله، إنما يمتد الأمر إلى التاريخ السياسي المعاصر لهذا البلد حديث النشأة، إذ لطالما تغنى السوريون بالمرحلة التي تلت الاستقلال، فمن المعروف أن النظام السياسي الذي ساد في سوريا منذ أوائل الأربعينيات أنه نظام برلماني ديمقراطي، لكن الواقع يشير إلى أن الصورة لم تكن وردية كما يحاول بعضهم تصويرها من خلال استحضار بعض الصور التي تعكس بيئة حضارية في بعض المدن الكبيرة، أو استحضار بعض التصريحات أو بعض المواقف لساسة ذلك الزمان، إذ تشير الحقائق والوقائع إلى أن الفئات التي وقفت وراء ذلك النظام ودعمته كانت من الفئات البرجوازية المطعمة ببقايا الإقطاع والملاكين العقاريين، وهؤلاء على حد تعبير المناضل الكبير عبد البر عيون السود نظروا إلى تحقيق الاستقلال وكأنه نهاية المطاف، فانصرفوا إلى قطف الثمار متناسين نضال الشعب السوري من أجله طوال ربع قرن. وهكذا، لم تكن هذه الطبقة السياسية قادرة على تحمل أعباء المرحلة الجديدة المضطربة، وهو ما أدى إلى النقمة عليها، والإطاحة بها فيما بعد دونما اعتراض شعبي يذكر.
سوريا المستقبل
ما سبق مجرد ادعاء أن الوزير الدكتور نضال الشعار أحد أعضاء الوزارة السورية الجديدة أراد أن يقوله تلميحا، ففي لقاء مع إحدى المحطات التلفزيونية اعترض الوزير الشعار على مصطلحات اعتبرها كلاسيكية مثل: إعادة إعمار سوريا، وإعادة إنتاج سوريا مرة أخرى، وقال تعقيبا على ذلك: نحن أمام فرصة “اختراع سوريا جديدة”. نحن الآن نفكر بسوريا جديدة من دون العناصر التي كانت تتحكم بها في السابق، فإعادة إنتاج سوريا تعني إنتاج شيء قديم متعب ومنهك، ولكن يجب التفكير مرة أخرى بأن سوريا هي دولة وليدة حاليا، ونحن أمام فرصة تاريخية بأن نرتب هذه الدولة كما نراه مناسبا للشعب السوري. وبالتالي، أنا أتمنى من السوريين أن يبدؤوا باستخدام تعبير “اختراع سوريا الجديدة” التي ستكون مختلفة عن سوريا الماضي. إنها سوريا الدولة المسالمة الصديقة المتطورة التكنولوجية. سوريا التي تزهو بأبنائها وبخبرات أبنائها. هذه سوريا التي نحلم بها. هذا ما قاله الوزير، وذاك ما ظننا أنه يرمي إليه، إذ لا يوجد في سوريا ما نحبذ العودة إليه، أو ما نفضل الإبقاء عليه.
إن ما جاء في كلام الوزير الشعار دعوة لبناء بلد. دعوة لانخراط الجميع في ورشة عمل مهمتها بناء علاقات اجتماعية جديدة، واقتصاد جديد، وثقافة جديدة، وباختصار شديد: هي دعوة لممارسة الوطنية والإحساس بحب الوطن كما يجب أن يكون، لا كما كان مجرد شعارات مفرغة من أي محتوى حسي أو روحي.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية