جدول المحتويات
«نبض الخليج»
مع انطلاق الثورة السورية أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيس بوك، المتنفس الأول للسوريين في التعبير عن مواقفهم وآلامهم وآمالهم.
خرج الصوت من عزلته، وتحول الفيس بوك من منصة اجتماعية إلى ساحة للنقاشات السياسية، ومصدر للمعلومة، وأحياناً إلى ساحة معركة رقمية، تعكس حالة الانقسام، والاحتقان، وحتى الانهيار النفسي الذي عايشه السوريون منذ سنوات، وكذلك الانتصار ونقاشات بناء سوريا ما بعد الأسد.
مساحة للتعبير أم ميدان للعنف اللفظي؟
الصحفية مها فطّوم، التي تابعت تطوّر الخطاب السوري على المنصات الرقمية منذ بدايات الحراك، ترى أن فيس بوك أدّى في البداية دوراً عظيماً في نقل صوت السوريين إلى الخارج. لكن مع مرور الوقت، تغير هذا المشهد.
وتقول لموقع “تلفزيون سوريا” “في البداية، كنّا نشعر بأننا ننتزع حقاً مسلوباً… كأننا نتنفس بعد اختناق طويل. لكن اليوم، أشعر أن فيس بوك بات يختنق بنفسه، بضجيج التناحر، والتخوين، والانقسام، وتحول الفضاء الذي احتضن الحقيقة يوماً، إلى مكان يعجّ بالتحريض والإشاعات، دون أي نوع من المساءلة أو التدقيق.”
وتؤكد أن المشكلة لا تكمن في المنصة نفسها، بل في غياب الوعي الرقمي، وتحوّل النقاشات إلى مواجهات تفتقر إلى الحد الأدنى من الاحترام المتبادل.
حين يصبح النقاش عبئاً نفسياً
الناشطة السورية نورا منصور تروي تجربتها مع فيس بوك من زاوية شخصية، وتصف كيف كان تصفح الأخبار والمنشورات اليومية يتحول إلى عبء نفسي متراكم، خاصة في لحظات سياسية أو إنسانية حساسة.
تقول منصور لموقع “تلفزيون سوريا” “كنت أشعر أحياناً أنني عالقة في دوّامة لا نهاية لها. كل يوم أقرأ أخباراً عن معاناة السوريين، عن قصف، عن اعتقال، عن مجاعة في المخيمات… وكنت أرى أشخاصاً، يستهزئون بذلك، أو ينشرون محتوى يبرر القتل والانتهاكات. كان هذا يصيبني بالحزن العميق، وأحياناً بالخوف الحقيقي من المستقبل.”
وتضيف أنها شعرت لأول مرة بنوبة هلع بعد انتشار أخبار مجازر الساحل، إذ كان وقع الصور والخطاب المرافق لها شديد القسوة.
وتضيف: “خفت فعلاً من أن تنزلق البلاد إلى حرب أهلية… كان الخوف يتملكني، وكنت أراجع حسابي في كل لحظة: هل من الآمن أن أستمر؟ هل يفيد التعبير؟”
رغم كل ذلك، لم تحذف حسابها، لكنها بدأت بتنظيم استخدام المنصة.
وتوّضح: “أوقفت متابعة صفحات وأشخاص يثيرون لدي مشاعر القلق أو الحزن أو الغضب، وأنا بحاجة للبقاء على اطلاع، لكن دون أن أدمّر نفسي كل صباح ومساء.”
“نكتب للهواء”… والشتم ينهال
الكاتبة والشاعرة رشا عمران، ترى أن المشكلة ليست فقط في فيس بوك، بل تجد في “الحرية المفاجئة” مبرراً لما يمرّ به السوريّ اليوم على مواقع التواصل.
وتقول لموقع “تلفزيون سوريا” فجأة صار الجميع يكتب عن كل شيء: السياسة، الدين، المجتمع… بلا أدوات، بلا تجربة، بلا وعي أحياناً. هذه الهستيريا لم تكن مصادفة، بل نتاج قمع طويل جداً، وحرمان من التعبير، لكن الفوضى بدأت تلتهم الحرية نفسها.”
رشا، التي تقيم خارج سوريا، تصف كيف أصبحت متابعتها اليومية للمنصة عبئاً عاطفياً لا يُحتمل.
وتضيف: “صار فيسبوك بالنسبة لي أشبه بالكابوس، أدخل كل يوم لأتأكد إن كان هناك جديد يخص أهلي في الساحل، لكنّي أخرج منه محمّلة بالحزن والغضب، ولأنني أعاني من مشكلة في القلب، شعرت في لحظة معينة أن المنصة تؤذيني فعلاً، جسدياً ونفسياً.”
ومع ذلك، لا تستطيع التخلي عن المنصة كلياً بسبب ارتباطها بالعمل الصحفي والثقافي، لكنها تسعى لتقليل الوقت الذي تقضيه فيها قدر الإمكان.
مجازر، صور، خطاب طائفي… وانهيار
الناشط هشام أبو إسماعيل يروي تجربة مختلفة، لكنها أكثر قسوة في وقعها.
ويقول أبو إسماعيل لموقع “تلفزيون سوريا” “ما رأيته على فيس بوك بعد مجازر الساحل كان كفيلاً بتفجير غضبي، وتحطيم أي أمل كان ما يزال يسكنني، كنت أقرأ منشورات تحتفل بالمجزرة، وأشخاصاً يشمتون بأم فقدت أبناءها… لم أصدق أن هذه الكلمات يمكن أن تخرج من بشر، من سوريين مثلنا.”
هشام يقول إن ما دفعه للابتعاد عن المنصة لم يكن فقط المحتوى العنيف، بل الصدمة من الأشخاص الذين كان يظن أنهم يشبهونه في الرؤية والأهداف.
ويضيف: “أدركت فجأة أننا لسنا في نفس القارب، والصدمة لم تكن فقط في رؤية الطائفية، بل في اكتشاف أن من كنت أظنهم أصدقاء، يبررون القتل.”
ويختم: “راجعت طبيباً نفسياً، وأغلقت حسابي لفترة طويلة، وشعرت أنني بحاجة لإعادة بناء نفسي من جديد.”
قراءة نفسية لحالة مجتمع جريح
الاختصاصية النفسية غزل سميح تضع هذه الحالات كلها ضمن سياق أوسع، وتؤكد أن فيس بوك في الدول المستقرة قد يكون أداة تعبير حرة، لكنه في دول مثل سوريا، يصبح في كثير من الأحيان “غرفة صدى للغضب والقهر”.
وتقول سميح لموقع “تلفزيون سوريا” “الناس تعاني من فقدان المساحة الآمنة للتعبير في الواقع، لذلك تلجأ إلى الفضاء الرقمي، لكنه ليس بالضرورة بديلاً صحياً، بل يتحوّل أحياناً إلى ساحة لتفريغ المشاعر المضغوطة، وغالباً بطريقة عشوائية ومؤذية.”
وتشير سميح إلى ما يُعرف بـ”الصدمة الثانوية”، وهي تصيب من يطّلع باستمرار على مشاهد العنف أو الأخبار الصادمة، سواء كانوا صحفيين أو ناشطين أو مجرد متابعين.
وتضيف: “الأعراض النفسية قد تشمل الاكتئاب، التوتر المزمن، الأرق، والانعزال… ونرى ذلك يومياً لدى الشباب السوريين الذين يعيشون في دوّامة الأخبار القاسية.”
وتشدّد على أن الخطابات التحريضية تؤدي إلى انقسام المجتمع إلى “نحن وهم”، وتغذّي ما تسميه “الراديكالية النفسية”، حيث يتبنى الفرد خطاباً متطرفاً دفاعاً عن شعوره بالانتماء والخوف.
وترى سميح أنّه “في ظل هذا الواقع المأزوم، لا يبدو أن مغادرة فيس بوك خيار واقعي للجميع، لكنه بالتأكيد لم يعد فضاءً آمناً، وتؤكد على أن التعامل من المنصة يجب أن يكون أكثر وعياً”
وتضيف أنّه ” لابد من تصفية مصادر المتابعة، وعدم اعتبار كل ما يُنشر حقيقة مطلقة، وعدم البدء أو إنهاء اليوم بالأخبار، ومن الضروري أيضاً التذكير بأن لنا الحق في الحفاظ على صحتنا النفسية، حتى في وجه العالم الرقمي”.
مما سبق، لم يعد “فيسبوك” مجرد وسيلة للتواصل بين الأفراد، بل أصبح انعكاساً لحالة مجتمع يعيش على صفيح ساخن.
فيه نعبّر، ونتحاور، ونسعى لبناء وطن حرّ يليق بما قدمه السوريون/ات على مدار أكثر من 14 عاماً، لكننا أيضاً نتصارع، نُصاب، وننزف نفسياً في كل لحظة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية