جدول المحتويات
«نبض الخليج»
ما إن أُعلِنَت العاصمة السورية دمشق محرّرة من النظام المخلوع، حتى تسارعت فيها عجلة الحياة من جديد، وبدأت موجة عودة آلاف العائلات من بلدان اللجوء ومناطق النزوح الداخلي، إلى مدينتهم التي هجروها قسراً لسنوات، محمّلين بالأمل في بداية جديدة واستقرار طال انتظاره.
لكن سرعان ما تحوّل هذا الحلم إلى كابوس اقتصادي ثقيل، إذ اصطدمت تلك العائلات بعقبة قاسية وغير متوقعة تثقل كاهلها، تمثّلت في صعوبة العثور على سكن يتناسب مع قدراتها المادية، إذ إن سوق الإيجارات كشر عن أنيابه بشروط تأجير تعجيزية، أبرزها طلب دفع إيجار سنة كاملة مقدماً وبالدولار.
ولم تقتصر الأزمة على العائدين الجدد فحسب، بل طالت حتى المقيمين في دمشق قبل سقوط النظام، ليجد الجميع أنفسهم في مواجهة سوق عقارية متفلتة، تفتقر لأدنى معايير العدالة، حيث تُسعّر المنازل وفق أهواء المالكين، لا وفق احتياجات السكان.
فوضى عقارية
ورغم انخفاض سعر صرف الدولار، فإن أسعار الإيجارات لم تتراجع، بل واصلت ارتفاعها، حتى بات من شبه المستحيل أن تجد عائلة صغيرة منزلاً بمواصفات عادية بأقل من 200 دولار شهرياً (نحو 2 مليون ليرة سورية)، مع اشتراط دفع المبلغ مقدماً أو على الأقل لستة أشهر.
أما من يحاول السكن في حي “مرموق” نسبياً داخل العاصمة، فعليه أن يستعد لدفع مبالغ قد تفوق ما يُدفع في مدن كبرى مثل إسطنبول، الأمر الذي جعل دمشق واحدة من أغلى المدن في أسعار الإيجارات مقارنة بدخل الفرد.
عمار الصالح، صاحب مكتب عقاري في منطقة الزاهرة الجديدة، أشار خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا إلى أن العديد من مالكي المنازل باتوا يطلبون الإيجار بالدولار بدلاً من الليرة السورية، بعد أن أصبح التعامل به مسموحاً، بحجة الحفاظ على قيمة أموالهم وسط تدهور العملة المحلية، على حد تعبيره.
وأوضح أن هذا التحوّل نحو الدفع بالدولار وفرض العقود السنوية زاد من صعوبة الحصول على سكن، خصوصاً لمن لا يملكون تحويلات خارجية أو دخلاً ثابتاً بالعملة الصعبة، ما يدفع البعض للبحث عن حلول مؤقتة أو التوجه إلى مناطق نائية تفتقر للخدمات.
بدوره، قال أبو يوسف، وهو أيضاً صاحب مكتب عقاري في منطقة الميدان: إن “ارتفاع الإيجارات ليس جديداً، بل تصاعد قبل التحرير، حيث وصلت في مناطق راقية كالمزة وأبو رمانة إلى 1500–4000 دولار شهرياً، فيما تتراوح الإيجارات في مناطق شعبية كالميدان والزاهرة بين 350 و600 دولار، وهي رغم ذلك تثقل كاهل العائلات متوسطة ومحدودة الدخل، خاصة مع شرط الدفع المسبق بالدولار”.
تنقّل بين الشمال ودمشق
منصور الحاج اضطر لمغادرة حي جوبر الدمشقي في أواخر عام 2012 نتيجة القصف المكثف الذي تعرّض له الحي، الذي عاش فيه قرابة 30 عاماً مع والده وأشقائه، قبل أن ينتقل إلى إدلب باعتبارها موطن العائلة الأصلي.
وأضاف في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أنه بعد معركة التحرير عاد مع إخوته إلى الحي، لكنه لم يجد سوى الركام، إذ كانت منازلهم الثلاثة الواقعة قرب دوّار المناشر مدمّرة بالكامل وغير صالحة للسكن، ما دفعه للبحث عن منزل للإيجار في ريف دمشق، نظراً لأن عمله بات هناك.
وبيّن الحاج أنه زار عدداً من المكاتب العقارية في عين ترما وزملكا، حيث تبيّن أن الإيجارات تتراوح بين مليون ومليون ونصف ليرة شهرياً، مع شرط دفع ستة أشهر دفعة واحدة، إلى جانب عمولة تعادل أجرة شهر لصالح المكتب، رغم غياب الخدمات الأساسية وسوء وضع النظافة العامة.
وأشار إلى أن هذا الواقع اضطره للإقامة مؤقتاً مع أحد إخوته في منزل متواضع على أطراف دمشق بإيجار يقارب المليون ليرة شهرياً، مضيفاً: “رغم أن عملي بات مستقراً في دمشق، إلا أنني أضطر إلى التنقّل بين العاصمة والشمال السوري من وقت لآخر، لأنني لم أتمكن حتى الآن من تأمين سكن ملائم وبسعر معقول يسمح لي بجلب عائلتي”.
خبير اقتصادي: تشوّهات هيكلية تفاقم أزمة السكن
باتت سوق العقارات في سوريا، وخاصة في دمشق، تعيش أزمة حقيقية ازدادت حدتها بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وبدت ملامحها أكثر وضوحاً خلال شهر رمضان، وفقاً للأكاديمي والباحث في الشؤون الاقتصادية الدكتور فراس شعبو.
وأوضح شعبو في تصريح لموقع تلفزيون سوريا أن هذه الأزمة تعكس تشوّهات هيكلية وعمرانية متراكمة، ناتجة عن سنوات الحرب وغياب التنظيم وتغيّر بنية السوق العقارية، مشيراً إلى أن الارتفاع الجنوني في أسعار العقارات لا يمكن تفسيره فقط بعودة السوريين، بل هناك أسباب جوهرية، أبرزها أن العرض أقل بكثير من الطلب نتيجة الدمار الكبير الذي طال الأحياء السكنية، وخروج آلاف الوحدات من الخدمة، سواء بسبب التدمير الكامل أو عدم صلاحيتها للسكن.
وأضاف: “غياب المشاريع السكنية الجديدة منذ سنوات أسهم في تثبيت العرض أو حتى تقليصه، مقابل زيادة الطلب الناتج عن عودة النازحين واللاجئين إلى المدن، فضلاً عن السياحة الموسمية لعدد من السوريين العائدين من الخارج إلى دمشق، ما شكّل ضغطاً إضافياً على السوق العقارية”.
دولرة العقارات
وأشار الدكتور شعبو إلى أن العامل الاقتصادي الأبرز في الأزمة يتمثل في التدهور الكبير لقيمة الليرة السورية، فعلى الرغم من التحسّن النظري في سعر الصرف، إلا أن القدرة الشرائية للمواطنين لم تتحسن فعلياً. وعلى سبيل المثال، كانت المليون ونصف ليرة تعادل 100 دولار في السابق، أما اليوم فتعادل نحو 150 دولاراً.
وتابع: “هذا التدهور في القيمة أدى إلى استغلال مالكي العقارات حاجة الناس في ظل غياب الرقابة القانونية والتنظيمية، حتى باتوا يفرضون أسعاراً خيالية تفوق ما كانت عليه في السابق. ففي بعض الحالات، كان المالك يطلب مبلغ خمسة ملايين ليرة، وهو مبلغ كان يعادل سابقاً نحو 300 دولار، لكنه يعادل اليوم نحو 500 دولار”.
هيئة مستقلة لتنظيم سوق العقارات
وفيما يتعلق بالدور الحكومي، بيّن الباحث أنه من الصعب فرض رقابة مباشرة على الإيجارات حتى في الدول المتقدمة، لأن السوق العقارية مرتبطة بعوامل العرض والطلب، والحالة الاقتصادية، وأحياناً بالحالة الأخلاقية لبعض المالكين. إلا أنه يجب على الحكومة أن تتخذ خطوات نقدية ومالية أكثر من تشريعية، تبدأ بتحسين الخدمات في المناطق المتضررة.
ونظراً لأن إعادة الإعمار تحتاج إلى وقت طويل وتمويل ضخم، أكد الدكتور شعبو على ضرورة تشجيع المشاريع السكنية الطارئة، وبناء وحدات سكنية مؤقتة في ضواحي دمشق لتخفيف الضغط عن المدينة، إضافة إلى إعفاء شركات الإسكان من الضرائب.
كما اقترح تأسيس هيئة مستقلة لتنظيم سوق العقارات، تتولى مراقبة الأسعار وتقديم رؤى واقعية للسوق، ووضع خطط لإعادة التنظيم العمراني، خاصة في ظل تفشي البناء العشوائي في دمشق، وتشجيع إشراك القطاع الخاص في جهود النهوض العمراني، مع منحه تسهيلات، على أن يقتصر دور الدولة على الرقابة والتوجيه.
واختتم الدكتور شعبو حديثه بالإشارة إلى التشوّه العميق في سوق العقارات بدمشق، نتيجة تداخل التنظيم القديم مع الحديث، وانتشار العشوائيات، مما يزيد التعقيد، لافتاً إلى أن الأسعار باتت تقارب مدناً كبرى كإسطنبول، رغم التفاوت الكبير في المستوى الاقتصادي والخدمي، ما يكشف عن فوضى تسعيرية واضحة.
الحكومة: هناك خطط مستقبلية
وحول الإجراءات التي تتخذها الحكومة للحد من ارتفاع أسعار الإيجارات في دمشق وريفها، أوضح مصدر في محافظة دمشق لموقع تلفزيون سوريا أن الحكومة تدرك تماماً حجم الضغط الذي يشهده سوق الإيجارات في العاصمة، خاصة في ظل ضعف الخدمات وغياب مشاريع سكنية جديدة.
وأشار إلى أن هناك دراسات قيد الإعداد لوضع مؤشرات سعرية مرجعية تساعد في ضبط الارتفاعات غير المنطقية في الإيجارات، رغم أن التسعير المباشر لا يزال غير ممكن قانونياً في الوقت الراهن، نظراً لخصوصية السوق واعتماده الكبير على مبدأ العرض والطلب.
وفيما يتعلق بالمناطق المتضررة بشدة، لفت المصدر إلى أن هناك خططاً تشمل تأهيل البنى التحتية، وإعداد مخططات تنظيمية جديدة، مع التفاوض مع شركات استثمارية محلية لتنفيذ وحدات سكنية في الضواحي، لتخفيف الضغط عن العاصمة وتحسين واقع السكن تدريجياً.
ورداً على سؤال حول غياب الرقابة على سوق الإيجارات، اعتبر المصدر أن ضبط السوق العقاري يتطلب آلية متكاملة، تعمل عليها الوزارة بالتعاون مع وزارة العدل والنقابات العقارية، بهدف وضع دليل استرشادي للأسعار يُحدّث بشكل دوري، معتبراً أن الحل يكمن في تحفيز مشاريع الإسكان الطارئ، لا سيما في ضواحي العاصمة.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية