«نبض الخليج»
لطالما ارتبطت السياسة في المخيلة السورية بالنضال والسجون والمنافي. العمل السياسي هو فعل معارض وصدامي حصراً. والانخراط في الشأن العام هو الطريق المثالي نحو السجن أو المنفى. الملاحقة تشمل أسرة الناشط أيضاً ضمن سياسة العقاب الجماعي في حقّ ذلك “السياسي ـ المناضل”؛ حيث تُحرم أسرته من الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة للتوظيف أو للحصول على أوراق أخرى من رخص تجارية أو استيراد وتصدير وغيرها، ناهيك عن الاستدعاءات الأمنية المتكررة في حق أفراد أسرته. فالنظام الأسدي جعل من السياسة حقّاً حصرياً له، وأي محاولة لتغيير ذلك الوضع يُعتبر جريمة. والمواطن هو مجرد كائن متلقٍّ لتوجيهات السلطة.
أما داخل المنظومة الحاكمة فليس للوزير سوى تنفيذ تعليمات الزعيم أو السلطة العليا، وغالباً ما تكون سلطة أمنية. حيث لا تُمنح صلاحيات حقيقية للوزير في اتخاذ القرار. ولا يعمل ضمن فريق وزاري ينتمي لحزب واحد لديه رؤية مشتركة، طرحها على الجمهور وتم انتخابه على أساسها، أي تمّ تعيينه لينفذ رؤية تمّ طرحها على الجمهور مسبقاً، وقد اختار الشعب تلك الخطة على ما عداها، وهو هنا على المقعد لتنفيذها. بالتالي، فإن الحكومة في سوريا لا تُعتبر أداة فاعلة وقابلة للتطور وإعادة التشكيل حسب المصلحة، بل كانت تمثل جزءا من جهاز دولة بيروقراطي لا يمت للسياسة بأي صلة. التشكيلات الحكومية كانت مجرد إشعار بتغيير الأسماء، في حين يبقى الواقع السياسي على حاله.
لكن، ماذا تعني السياسة في جوهرها؟ السياسة ليست مجرد إدارة الشؤون الحكومية، بل هي إدارة اختلافات المصالح والرؤى في المجتمع من خلال المؤسسات، وأيضا مساحة تتيح للمواطن أن يعبر عن رأيه، أن يراقب أداء الحكومة، وأن يُحاسب المسؤولين عن قراراتهم. السياسة في أوروبا على سبيل المثال، ليست حكرا على القادة بل هي مساحة حرة للمشاركة. يتمكن المواطن في أوروبا من مراقبة الوزراء وتحليل برامجهم الانتخابية، ويُشترط أن يتمتع الوزير بالكفاءة والشفافية ليظل في منصبه.
في ألمانيا، على سبيل المثال، حين أخفقت وزيرة الأسرة في إدارة تمويل المشاريع المجتمعية، تم تسليط الضوء على هذا الفشل من قبل الإعلام، وكان هناك ضغط شعبي وبرلماني دفعها للاستقالة. وفي فرنسا، استقال وزير البيئة فرانسوا دو روجي في عام 2019 بعد أن أظهرت التحقيقات الصحفية استخدامه الأموال العامة في حفلات فاخرة، مما اضطره إلى الرحيل. في هذه النظم الديمقراطية، لا أحد فوق المحاسبة، وكل خطوة تُقاس من قبل الشعب. المسؤولون لا يُعتبرون محصنين من النقد أو الاستجواب. كثيراً ما تسمع عن استقالة وزير أو مسؤول بسبب قضايا تتعلق بالتهرب الضريبي أو حتى أخطاء بسيطة في سيرهم الذاتية أخفوها عن الجمهور وقت ترشيحهم وتم اكتشافها لاحقاً.
أما في سوريا فنظام الأسد الأمني يُمثّل السلطة الوحيدة التي تصنع القرار من دون أي مساءلة من أي جهة. ولكن بعد سقوطه بدأ يظهر تغيير جذري في الثقافة السياسية للشعب السوري. بدأ السوريون يتداولون السياسة بشكل يومي. وأصبح السياسيون في نظر المواطنين ليسوا مجرد موظفين حكوميين، بل جزءا من حياة الناس اليومية، وأصبح الشارع السوري يعج بالحديث عن القضايا السياسية، وتوسعت النقاشات لتشمل الأجيال المختلفة داخل الأسرة الواحدة، حيث أصبح الأبناء يناقشون مع آبائهم الأوضاع السياسية والحلول المستقبلية، بل أصبح الأمر يشمل حتى الجيل الأكبر سناً.
لم يكن هذا الاهتمام مفاجئاً، فقد شعر السوريون لأول مرة بعد عقود من القمع ليس فقط أن لديهم الحق في المشاركة في السياسة وتحديد مصيرهم السياسي والاجتماعي، بل إن هذا البلد بلدهم، وعليهم واجب المشاركة سواء بالنشاطات الميدانية أو بالسياسة بمعناها الحقيقي وهو مراقبة عمل الحكومة ونقدها ومحاسبتها. وقد ترافق هذا التحول مع الانفتاح يمكن أن نقول “النسبي”: في الفضاء السياسي، حتى وإن كان هذا التعبير لا يزال يواجه تحديات كبيرة من حيث الخبرة
في السياسة والعمل في التجمعات السياسية سواء الحزبية أو النقابية أو الجمعيات المدنية والتقاليد الحقوقية والسياسية التي تحكم عملها، وتضمن التفاعل والنجاح ضمن بوتقة اختلاف الآراء والتوجهات والأهداف، خصوصاً مع الاختلافات الإيديولوجية الحادة والتوترات وحالة عدم الثقة بين مختلف أطياف المجتمع السوري في الوقت الراهن. كان التفاعل السياسي في وسائل التواصل الاجتماعي بداية لتوسيع هذا الوعي، لكن الأهم من ذلك أن هذا النقاش انتقل إلى الحياة اليومية. أصبح الحديث عن السياسة في المقاهي أمراً عادياً، وأصبح المواطنون السوريون يتداولون الأخبار والتطورات السياسية كما يتناولون المواضيع الثقافية والاجتماعية.
في التشكيل الوزاري الأخير، ظهر مشهد غير مألوف: نقاشات حادة على وسائل التواصل الاجتماعي، تحليلات معمقة عن خطابات الوزراء من قبل متخصصين، تحليل لسير الوزراء الذاتية، تساؤلات عن مؤهلاتهم وخلفياتهم، بل حتى تداول واسع لمعلومات تتعلق بمصادر أموالهم وتاريخهم العلمي والأخلاقي. فجأة، صار الناس يهتمون بأسماء الوزراء، بخطط الحكومة بتصريحات المسؤولين ووضعها في الميزان، بطريقة تشكيل الحكومة، وحتى بالوجوه المتكررة التي تعود كل مرة، حتى لا تبقى مرة أخرى إلى الأبد!
لكن هذا التحول، رغم أهميته، لا يكفي لوحده لتحقيق نقلة نوعية في الممارسة السياسية في سوريا. الحكومة السورية، في حال أرادت أن تكون هناك دولة عادلة ومتقدمة، يجب أن تتبنى هذا التحول وتعززه. فالاهتمام السياسي الذي بدأ في الشارع والمنازل يجب أن يُترجم إلى آليات مؤسساتية تضمن حق المواطن في المشاركة السياسية الحقيقية. يجب أن تعترف الحكومة بحقوق المواطنين في الانتقاد، وفي المطالبة بالشفافية والمحاسبة. إضافة إلى ذلك، يجب أن يتم تأسيس ثقافة سياسية قائمة على احترام حقوق الإنسان، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث يُسمح للمعارضة السياسية بالمشاركة الفعّالة في الشأن العام، وأن تترسخ مفاهيم الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الحياة السياسية اليومية. كما يجب أن تتاح الفرصة للأحزاب السياسية الحرة والمستقلة للظهور وممارسة دورها بشكل علني وشفاف.
الاستجابة لهذا التحول تتطلب تفعيل آليات الحكم الرشيد، مثل تقوية دور البرلمان، وإنشاء قنوات تشريعية مستقلة تتعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيداً عن التحكم السلطوي المباشر. فلا يمكن تحقيق تحولاً حقيقياً من دون أن تترسخ هذه المفاهيم في النظام السياسي. هذا يتطلب من الحكومة ألا تكتفي فقط بالإصلاحات الشكلية، بل أن تعمل على توفير بيئة سياسية تشجع على التعددية والمشاركة الفعّالة و”الآمنة” لجميع المواطنين.
الخطوة الأهم هي أن يتحوّل الحديث عن السياسة من مجرد نقاشات عابرة في المقاهي إلى ممارسات سياسية مؤسساتية جدية تؤثر في اتخاذ القرار السياسي وتساهم في تشكيل السياسات العامة لخلق “مجال عام” حسب تعبير هابرماس يعمل فيه الجميع على إيجاد مصالح مشتركة جامعة. على الحكومة أن تدرك أن الديمقراطية لا تعني فقط السماح بإجراء الانتخابات وتشكيل حكومة، بل تعني أيضاً السماح للشعب بالمشاركة الفعلية في صنع القرار، وهكذا يعود السوريون إلى ممارسة السياسة ـ ليس بالصورة القديمة التي تعني الانتماء إلى حزب أو المشاركة في مظاهرة، بل بالصورة الأعمق: السؤال، والمراقبة، والنقد والاهتمام بما يُدار باسمهم. لقد خرجوا من دائرة الخوف ودخلوا دائرة الفعل. وهذا في حدّ ذاته إنجاز سياسي. وهو ما سيؤدي في النهاية إلى بناء سوريا التي ننشدها، والقائمة على العدالة والحرية والمساواة.
حسب ما نأمل طبعاً….
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية