جدول المحتويات
«نبض الخليج»
مشهد لا يمكن اختزاله بجملتين: رمضان قبل تحرير سوريا ورمضان بعد التحرير. فسوريا، التي يلتقط أهلها أنفاسهم أخيراً ويعيشون رمضانهم كما لم يعيشوه من قبل، هي نفسها سوريا التي نزلت البراميل على أهلها ساعة الإفطار في رمضانات، ونزحوا، وشُرّدوا، وفقدوا، وتحسّروا، واحتاجوا في رمضانات أخرى. رمضان اليوم مختلف بكل هذا.
فبالتوازي مع القيمة الدينية الرفيعة لشهر رمضان، يشكل الشهر طقساً اجتماعياً عظيماً ينتظره السوريون بكل حب، بل هو أشبه بمهرجان للتسامح يمتد منذ النصف من شعبان، حيث تتصافى النفوس، وتتصالح الخصوم، وتُوصل الأرحام ليُقبلوا على شهر الخير بنفوس نقية، سيما أن رمضان بطقوسه، التي عادت اليوم، فرصة يلتقون فيها مراراً في ولائم إفطاراتهم وتراويحهم وأسواقهم وتجمعاتهم، التي حُرموا من ممارستها بحرية لسنوات.
المساجد تنبض من جديد
المساجد اليوم تغصّ بالمصلين، مكتظة “دون مخبرين وعناصر أمن”؛ هذا هو الفرق بين تراويح اليوم وأمس. المصلون اليوم يُقبلون على صلاة التراويح بوجوه مستبشرة ونفوس راضية، دون شعور ملازم بالخوف من الأمن، فلربما يُقدِم عنصر أمن على اعتقال أيٍّ منهم لسبب يجهله، يقول طارق (44 عاماً)، من سكان حي المناخ في مدينة حماة.
ويضيف في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا” أن “السوريين، بشكل عام، باتوا يمارسون عباداتهم بكل أريحية، فنحن نذهب إلى المساجد ونؤدي صلواتنا دون خوف من الإخبار، ولا سيما صلاة الفجر”، ويضيف أن عدد المصلين اليوم في صلاة الفجر يفوق عددهم في صلاة الظهر أحياناً، وذلك بعد أن كان ارتياد المسجد، تكراراً لتأدية صلاة الفجر، ذنباً تُعتقل عليه.
وبحسب طارق فإن “الحرب التي شنها علينا الأسد لم تكن بعام أو عامين، بل امتدت أربعة عشر عاماً، مر فيها رمضانات بعددها، وقد تبدلت فيها أحوال البلد كثيراً. فمثلاً، في السنوات الأولى المرافقة لاندلاع الثورة السورية، كانوا يشددون على المساجد ومرتاديها، فلم يعد الناس تجرؤ على ارتيادها بزخم، وكان الغالبية يؤدون صلواتهم في منازلهم”.
ويشير طارق إلى أنه “في السنوات الأخيرة، ومع الاستقرار الكاذب الذي بثّوه بين الناس، أصبح لديهم شبه استسلام، فعادوا لممارسة عباداتهم، ولكن بشكل خجول، فالخوف والتقييد والكدر ظل ملازماً لنفوسهم”.
منابر حرة وقلوب مطمئنة
في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، يؤكد الدكتور الشيخ شادي سرميني، إمام جامع النوري في مدينة حماة، اختلاف رمضان وطقوسه الدينية قبل التحرير وبعده، ويقول إن “كل خطبنا ودروسنا كانت تخضع لرقابة أمنية، فيُحذف منها ما يُحذف، ويُضاف إليها ما يُضاف، بما في ذلك خطبة الجمعة”.
ويضيف الشيخ سرميني أنه “اليوم، الأمر بات مختلفاً، إذ يرتاد الناس الجوامع بأريحية لتأدية صلواتهم، وللاستماع إلى الدروس والخطب التي لم تعد مراقَبة، فيمكن للشخص أن يأخذ الحكمة والعبرة التي يرجوها الخطيب ويمارس عبادته بكل أريحية، وهذا ما دفع الناس للعودة إلى المساجد”.
كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالدعاة، الذين تحرروا هم أيضاً من قبضة الأمن، في تعزيز الممارسة الصحيحة للعبادات، وخصوصاً لمن لا يملكون الوقت ولا الفرصة لارتياد الجوامع، ولا سيما جمهور النساء.
تقول فاتن، (49 عاماً)، من أهالي حي الميريديان في حلب، “أنا اليوم، كربة منزل، ولدي التزاماتي المنزلية في رمضان، لا يمكنني الذهاب إلى المساجد والاستماع إلى الدروس، بل أتابعها عبر صفحات بعض الدعاة من أهلنا السوريين، الذين أصبحوا يقدمون لنا الموعظة والحكمة دون قيود، ويشجعوننا على العودة إلى ممارسة شعائرنا بعد التحرير من عصابات الأسد، التي حرمتنا منها لسنوات طويلة، وكانت تجرّم من يرتاد الجوامع”.
وبحسب فاتن، فإنها تؤدي صلاة التراويح، التي تصفها بأنها مختلفة هذا العام ولها وقع خاص، حيث تجتمع مع جاراتها وصديقاتها في جامع الدرويش بحي الميريديان في مدينة حلب، ويلاحظن اكتظاظ صفوف المصلين من كل الأعمار.
موائد رمضان تجمع أهلها
من جانب آخر، لم تحرم الحرب السوريين من إقامة موائد الإفطار، ولكنها حرمتهم من بهجة التجمع حولها، إذ إن لذة المائدة الرمضانية وسحرها يكمنان فيمن يجتمعون حولها من أهل وأحباب، وينشغلون بتحضيرها بنفوس مرتاحة.
فأفراد العائلة السورية الواحدة لم يعودوا موجودين في البقعة نفسها، فمنهم اللاجئ، والنازح، والمفقود، والمعتقل، والمغيَّب، فأيُّ مائدة تلك التي ستبهج الأسرة؟ وأيُّ نفس تقوى على إقامة الولائم والدعوات للأقارب والأصحاب؟
اليوم، وبعد سنوات من التشتت، يعود كثير من السوريين إلى بلدهم ليكونوا مع أهلهم وذويهم في رمضان، ويعود آخرون إلى مناطقهم، رغم الدمار الذي أصابها، ليحيوا رمضاناً جديداً حُرموا من إحيائه لسنوات.
تقول الحاجة عائشة، (67 عاماً)، من أهالي مدينة داريا، والتي كانت تقيم في تركيا منذ أكثر من عشر سنوات، “سعيت لأن أكون في سوريا قبل حلول شهر رمضان لأكون بين أهلي وأحبابي. تمنيت العودة إلى داريا، إلا أن منزلي مدمر بالكامل”.
وفي حديثها لموقع “تلفزيون سوريا”، تضيف الحاجة عائشة أنه “أقيم حالياً في منطقة الجديدة، وأنا في غاية الراحة والسعادة، أزور داريا بشكل شبه يومي في رمضان، أُلبي دعوات الأهل والأصدقاء ممن عادوا إلى منازلهم، وألاحظ الفرحة التي تغمر وجوه الناس”.
المسحراتي.. إيقاع رمضاني لا يغيب
بصوت حنون، وزيٍّ عربي متواضع، بل أقرب للمهترئ، يحمل طبلاً بحافة مكسورة، وفي يده الأخرى “أرطل” (سلة من الخيزران)، كان أبو عثمان يجوب شوارع حي الحميدية في مدينة حمص في شهر رمضان ليوقظ أهلها وقت السحور.
هكذا يصف محمد زهرة، (54 عاماً)، من سكان الحي، مؤكداً أن أبا عثمان واظب على عمله كمسحّر لسنوات طويلة انتهت بوفاته في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
وفي حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، يقول محمد إن أبي عثمان “كان يمثل شخصية المسحّر كما يمكن للإنسان أن يتخيلها، ويمتلك كل أدواتها، كان يمر من أمام كل بيت منادياً اسم صاحبه بصوت حنون لا أكاد أنساه”، ويضيف أنه “على الرغم من استلام ابنه عثمان لمهمة التسحير بعد وفاة والده، فإنه لم يترك في نفوس أهالي حمص الوقعَ والأثر ذاته الذي تركه والده”.
هكذا هو المسحِّر في سوريا، شخصٌ يتطوع لإيقاظ الآخرين وقت السحور، ومع تقدم الحياة وتطور الأجهزة الإلكترونية القادرة على إيقاظ الناس، كان بالإمكان الاستغناء عن المسحِّر.
إلا أن السوريين، بتمسكهم بتراثهم ومحبتهم لإحياء عاداتهم وتقاليدهم التي تربَّوا عليها، حافظوا على مكانة المسحِّر المجتمعية، وظلوا ينتظرون مسحِّريهم كل رمضان، مجهزين لهم أطايب الطعام في كل ليلة. فإذا ما أقبل العيد، كان لهم من “العيدية” الحظ الوفير من أهالي الأحياء التي جابها طيلة الشهر، وذلك بحسب محمد.
وكغيرها من العادات التي خبا ظهورها في سنوات الحرب، يوضح طارق أيضاً خُبُوَّ ظاهرة المسحِّر لفترات، ويضيف أنه “اليوم، بعد تحرير سوريا، عاد المسحِّرون إلى الحارات بأريحية، وينتظرهم الأهالي كل ليلة بحب، ليستأنسوا بصوت طبلهم، وهم مجهزون لهم الأطباق. يتكفل اليوم شخص بسيط اسمه رحيّل بتلك المهمة في حينا، ويلقى قبولاً لدى الجميع”.
مشاريب رمضان.. تقليد متجدد ومصدر رزق
أنواع نعرفها وأخرى لا نعرفها، كثيرة ومبتكرة هي المشروبات المتوفرة اليوم في الأسواق، أو التي نراها في وسائل التواصل الاجتماعي ويمكن تحضيرها في المنزل، إلا أنها لا تجذب الصائمين، والأهم أنها لم تُغنِ السوريين في رمضان عن مشروباتهم الأساسية المعتادة، من التمر الهندي إلى العرقسوس، والجلاب، وقمر الدين، وربما يتخللها في أحسن الأحوال بعض العصائر المنزلية الصنع من ليمون، وبرتقال، ونارنج.
وغدت تلك المشاريب بأنواعها سمةً أساسيةً يتسم بها شهر رمضان، وغدا الاشتغال بها مصدرَ رزقٍ لكثير من الشباب أو العائلات خلال الشهر الكريم، وذلك بحسب سامر، وهو شاب يبيع المشاريب الرمضانية في إحدى البسطات في حي ركن الدين الدمشقي، بعد أن تحضرها له والدته في المنزل.
يقول سامر، لموقع “تلفزيون سوريا”، إن “هذه الظاهرة تكثر في شهر رمضان، والبسطات تملأ الشوارع في كل مكان”، ويشير إلى أنه “بالإضافة إلى المحلات، يمكن لأي شخص أن يبيعها في الأحياء الفرعية، وتكون مصدر رزق إضافي يغطي مصاريف رمضان”.
من جانبها، أكدت سناء، (47 عاماً)، من أهالي حي الأميرية في حماة، أن البعض يمتهن بيع هذه المشاريب على مدار العام، مع ازدياد الطلب عليها خلال شهر رمضان، كحال “القنطقلي”، الذي وصفته بأنه محل لبيع المشاريب في حي الأميرية، ويكون الإقبال عليه واسعاً من الأحياء المجاورة خلال الشهر.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية