جدول المحتويات
«نبض الخليج»
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، لم تستوعب إيران الصدمة. فالحدث الذي أفرح الشعب السوري وخلّص المنطقة والإقليم من نظام حكم دموي عاش لعقد ونصف على تجارة المخدرات، أقلق إيران وأخرج سوريا من فلكها ومن محورها، ودمّر مشروعها الذي عملت على إطالة حكم بشار الأسد في سبيله، لتنتقل طهران من العمل العلني إلى الاشتغال في كواليس المشهد السوري.
ومنذ الأيام الأولى لإسقاط الأسد والإطاحة بمنظومة حكمه، لم تقدّم إيران رسائل إيجابية تجاه دمشق، فاتهم رأس الهرم فيها، المرشد علي خامنئي، أمريكا وإسرائيل وتركيا بالتخطيط للأحداث التي أسقطت الأسد، وقال: “إن ما جرى في سوريا كان لدولة مجاورة (في إشارة إلى تركيا) دور واضح فيه، لكن أمريكا وإسرائيل هما السبب الرئيس لذلك”.
كما اعتبر أن قوى المعارضة السورية تسعى لاحتلال سوريا، مضيفاً أن المقاتلين (في إشارة للفصائل السورية المعارضة) يسعون إلى احتلال الأرض من شمال سوريا إلى جنوبها، في الوقت الذي تسعى فيه إيران لترسيخ وجودها في المنطقة، مهدداً باستعادة “الشباب الغيور” لـ”المناطق المحتلة”.
وفي وقت لاحق، وصف خامنئي انتصار الثورة السورية بـ”الفوضى”، وتوعد بهزيمة إرادة الشعب السوري الذي أسقط الأسد، وقال: “ليس لدى الشاب السوري ما يخسره، فماذا يفعل؟ يجب عليه أن يقف بإرادة قوية أمام أولئك الذين خططوا ونفذوا لهذه الحالة من انعدام الأمن”.
التصريحات الإيرانية هذه قابلها رفض رسمي من دمشق لأول مرة منذ عقود، جاء على لسان وزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي حذّر إيران من نشر الفوضى في سوريا، ودعاها لاحترام إرادة السوريين وسيادة سوريا. كما قوبلت برفض عربي جماعي اعتبر التصريحات الإيرانية تجاه سوريا تأجيجاً للفتن بين أبناء الشعب السوري.
تلويح بحرب أهلية في سوريا
ورغم أن طهران خففت دبلوماسياً من لهجتها ضد دمشق، حين تحدث وزير خارجيتها عن أن القرار بشأن مستقبل سوريا مسؤولية السوريين وحدهم، عادت إيران إلى سيرتها الأولى بضخ التصريحات العدائية حيال دمشق على لسان مسؤولين عسكريين في “الحرس الثوري الإيراني”، وصولاً إلى تصريحات مستشار خامنئي للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، الذي قال في 4 من آذار: “إن هناك احتمالية لاندلاع حرب أهلية في سوريا في أي لحظة”، كما تحدث عن أدلة تراها إيران تشير إلى وجود مقدمات لتفكك الدولة السورية، من منظوره.
الموقف الإيراني من دمشق لم يقابل برفض سوري وعربي فقط، إذ انتقد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نهج إيران في إدارة السياسة الخارجية عبر ميليشيات في دول إقليمية، واصفاً إياها بأنها “سياسة عالية المخاطر”، وتفرض أعباء هيكلية كبيرة على المدى الطويل على النظام الإيراني والمنطقة. ما قابله رد إيراني غير ودي، ودعوة علي أكبر ولايتي للمسؤولين الأتراك للالتزام بـ”الآداب الدبلوماسية”، على اعتبار أن طهران “لن تصمت أمام مبالغات أنقرة”، وفق قوله.
وفي خطوة تصعيدية إضافية، استدعت الخارجية الإيرانية السفير التركي في طهران للاحتجاج على تصريحات فيدان، بعدما وصفتها بأنها “غير بناءة للغاية”، لترد أنقرة باستدعاء القائم بالأعمال الإيراني لديها.
إيران لن تتوقف عند هذا الحد، وهي مسألة متوقعة سياسياً، وحذّرت منها الولايات المتحدة لمرتين في شباط، على لسان القائمة المؤقتة بأعمال الممثل الدائم لها في مجلس الأمن، دورثي شيا، التي حذّرت في 22 من شباط الماضي من محاولات طهران إعادة ترسيخ نفوذها في سوريا، وقالت: “إن مؤشرات تحذيرية لنفوذ إيران الخبيث وعزمها على إعادة ترسيخ وجودها في سوريا واضحة”.
كما قالت شيا أمام مجلس الأمن في 12 من الشهر نفسه: “نحن نشعر الآن بالقلق إزاء التقارير التي تتحدث عن تشكيل مجموعات جديدة في سوريا تحرض على العنف، بما في ذلك من خلال محاولة جر إسرائيل إلى صراع مباشر، وتتحدث التقارير عن أن هذه المجموعات تتلقى الدعم المالي واللوجستي من إيران، حتى بعد مغادرة هذه الأخيرة للبلاد”.
عودة إلى “لغة الميليشيات”
وخلال الفترة الماضية، تشكّلت عدة ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون في الساحل السوري، تدين بالولاء للنظام السابق، وعملت على ضرب السلم الأهلي واستهداف قوات الأمن العام التابعة للحكومة السورية، من خلال كمائن غادرة، وصولاً إلى إعلان إيران ومباركتها تشكيل ما قالت إنه “جبهة المقاومة الإسلامية” في سوريا، تحت مسمى “أولي البأس”.
وإلى جانب أن شعار الميليشيا المذكورة قريب بالشكل من شعارات كل الميليشيات التي شكلتها إيران في المنطقة، فالفصيل اتخذ لنفسه ذات الاسم الذي أطلقه أمين عام “حزب الله” اللبناني، نعيم قاسم، على المعركة مع إسرائيل، إثر اغتيال الأمين العام السابق، حسن نصر الله.
وسائل إعلام إيرانية، منها وكالة “مهر”، نقلت عن القائد العام لـ”الجبهة”، دون أن تسميه، أن هذه الخطوة “رد فعل طبيعي وشرعي لمواجهة محاولات التقسيم والتهجير التي تتعرض لها البلاد”.
كما ذكرت أن “الجبهة خرجت من رحم الشعب السوري لمواجهة أي محاولات للمساس بأمن البلاد في ظل غياب القوى السياسية والاجتماعية التي كانت تدير سوريا سابقاً”، ما يضع إيران في حالة إنكار ورفض اعتراف مستمر بالإدارة السورية الجديدة، في خطوة تتعارض مع مخرجات اجتماعات الرياض الدولية بشأن سوريا، ومؤتمر باريس الدولي بشأن سوريا، حين نصّ بياناهما الختاميان على دعم الحكومة الانتقالية في سوريا، ودعم عملية الانتقال السياسي وصولاً إلى حكومة تشاركية تمثّل مختلف أطياف الشعب السوري.
وفي 6 من آذار، بدأت فلول نظام الأسد والميليشيات المشكلة تحت نفس الراية باستهداف أرتال لقوات الأمن السوي الحكومي في الساحل السوري أوقعت خلال يومين أكثر من 100 قتيل من عناصر الأمن، ما قابلته الحكومة بإطلاق حملة أمنية ما تزال مستمرة لتطهير المنطقة من الفلول بعد حالة الفوضى التي سببوها على المستوى الإنساني والخدمي.
ويرى المحلل السياسي العراقي المقيم في واشنطن، هيثم هيتي، أن بقايا محور إيران في المنطقة لها دور كبير في العملية ضد الحكومة الجديدة في سوريا، رداً على سرعة إثبات الحكومة الجديدة نفسها وظهورها بصورة إيجابية جداً، أمام العرب والمجتمع الدولي، فجاءت هذه الخطوة لتوريط الحكومة السورية بأعمال بشعة نوعاً ما في سبيل تشويه صورتها وإسقاط الصورة الإيجابية التي كونتها في ثلاثة أشهر.
وقال المحلل السياسي لموقع “تلفزيون سوريا”، إن إيران الآن لا تقبل أن تكون سوريا بالكامل محط نفوذ تركي، ما يعني دعم طهران لـ”قسد” أو الفلول، فإن لم تحصل على كل سوريا، فيمكن من منظورها أن تحصل على جزء عبر سعيها إلى زعزعة الوضع، أو فدرلة سوريا، رداً على تركيا، وهي خطوة تحمل مخاطر لإيران في الوقت نفسه.
استقرار سوريا يهدد مصالح إيران
الباحث السياسي المختص بالشأن الإيراني وقضايا الشرق الأوسط، وجدان عبد الرحمن، أوضح لموقع “تلفزيون سوريا” أن سوريا كانت العمق الاستراتيجي الأهم لإيران، وفقدان السيطرة عليها يُشكل ضربة قوية لاستراتيجيتها الإقليمية. فسوريا هي الممر الأساسي برياً الذي يسمح لطهران بتزويد “حزب الله” بالسلاح، وتعزيز نفوذها في المنطقة عبر التمويل، وحتى من خلال تجارة المخدرات مثل “الكبتاغون”، الذي كان يُصنع في سوريا ويمثل مصدر دخل مهم لتمويل أنشطتها، ما يجعل خسارة سوريا خسارة كبرى للنظام الإيراني، ولهذا لن تسمح طهران بوجود استقرار حقيقي في سوريا، لأن استقرارها لا يخدم مصالحها، ويهدد نفوذها الإقليمي.
كما أن الوجود الإيراني في المنطقة مبني على خلق الفوضى وعدم الاستقرار، لأنه كلما استقرت الأوضاع في الدول المجاورة، زادت الضغوط على الداخل الإيراني، ما قد يؤدي إلى نقل المعركة إلى داخل إيران نفسها. لذلك، من المتوقع أن تواصل إيران محاولاتها لإعادة فرض نفوذها في سوريا، سواء من خلال الميليشيات التابعة لها أو عبر عرقلة أي حلول سياسية حقيقية.
وبالنسبة لتقديم إيران تصريحات دبلوماسية قبل العودة للهجة التهديد، بيّن الباحث أن تضارب التصريحات جزء من النهج السياسي لطهران منذ تأسيس “الجمهورية الإسلامية” ولا يقتصر على الخلاف بين المؤسستين السياسية والعسكرية، بل يمتد إلى داخل كل منهما، لتظهر تصريحات متناقضة بين السياسيين أنفسهم، وبين القيادات العسكرية أيضاً، دون أن يعني ذلك تبايناً في مراكز القرار، على اعتبار أن المادة 110 من الدستور الإيراني تنص على أن المرشد الأعلى هو واضع السياسات العامة للدولة داخلياً وخارجياً، وصاحب الكلمة الأخيرة في القضايا الاستراتيجية.
وبناء على ذلك، فما يبدو تضارب تصريحات هو جزء من تكتيك سياسي إما للمناورة أو لتمرير رسائل متعددة لجهات مختلفة.
وطالما اعتمدت إيران على الميليشيات التابعة لها في سوريا ولبنان وأذرعها في سوريا لتنفيذ أجندتها الإقليمية، لكن مع التراجع الحاد في قوة هذه الميليشيات تراجع تأثير إيران وتحديداً داخل سوريا، حيث لم يتبقى لها سوى بعض الخلايا المتفرقة التي لا تستطيع فرض واقع جديد.
الحملة الأمنية والعسكرية ضد فلول النظام أنهتها وزارة الدفاع السورية في 10 من آذار، وكانت هجوم الفلول والحملة التي أعقبته 803 قتلى، بينهم 172 عنصراً من قوات الأمن العام و211 مدنياً، قتلوا بإطلاق نار مصدره فلول الأسد.
وتخلل الحملة انتهاكات من قبل أفراد عسكريين دفعت الرئيس السوري إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق، وأخرى للسلم الأهلي.
وفي مقابلة أجراها مع وكالة “رويترز” في 10 آذار، حمّل الرئيس السوري، أحمد الشرع، الفرقة العسكرية التي كان يقودها ماهر الأسد شقيق بشار (الفرقة الرابعة) ودولة أجنبية متحالفة معها، المسؤولية عن إراقة الدماء في الساحل السوري.
ورغم أن الشرع لم يذكر إيران بالاسم، لكنه أشار إليها بأنها جهة تضررت من التغيير الذي جرى في سوريا، وليس هناك خسارة بحجم خسارة إيران بعد سقوط النظام وفرار بشار الأسد.
مع سقوط نظام الأسد وخروج ميليشيات إيران عن الخدمة في سوريا، باستثناء من تحاول دعمهم في الساحل أو شمال شرقي سوريا، انقطع الطريق البري بين ميليشياتها في العراق ولبنان. وهذا يعني بالضرورة قطع خط الإمداد الإيراني عبر البر لـ”حزب الله”، كما أن الخيار الجوي غير متاح طالما أن مطار رفيق الحريري في بيروت تحت أنظار إسرائيل. وبالتالي، فالتركيز على الساحل السوري يعني تركيزاً على طريق بحري تتمناه إيران، فالبر مغلق، ولا وجود لقبول شعبي أصلاً لإيران في الأراضي السورية، حيث يعتبرها الشعب السوري شريكة للأسد بالقمع والقتل والتدمير عبر أذرع طائفية حاولت من خلالها تغيير صورة البلاد على مختلف المستويات، وهو ما نسفه بلمح البصر انتصار الثورة في سوريا.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية