«نبض الخليج»
لا يزال اللصوص والقتلة من بقايا فلول الأسد يحلمون باستعادة السلطة المافيوية التي أسست لها عصابة آل الأسد، وأتاحت لهم الفرصة ليعيشوا شهر عسل استمر لأكثر من خمسين عاماً، استطاعوا خلالها نهب سوريا والسوريين، وإفقارهم، وإذلالهم، والتكسب على حساب حقوقهم في العيش بكرامة، أو حتى بالحدود الدنيا من الكرامة.
لم يستوعب اللصوص أنهم لم يعودوا قادرين على النهب والقتل والتسلط، ولم يستوعبوا أن يتحولوا إلى مواطنين عاديين بعد أن عاشوا لعقود يعتقدون بأنهم سادة على غيرهم، وأن السوريين مجرد عبيد لهم وخدم عندهم.
وبعد سقوط النظام، هرب الكثير منهم إلى خارج القطر، وتوارى بعضهم في الداخل السوري متخفين بجناحي حمامة سلام ووداعة. وبعد أن ضمنوا سلامتهم، استفاقت شهوة السلطة لديهم من جديد، وبدؤوا بالاتفاق مع الهاربين خارج القطر، يخططون للعودة من بوابة بعض التجاوزات والأخطاء، التي لم تكن في البداية سوى بعض الإهانات اللفظية والملاسنات الكلامية التي وجهها أفراد غير منضبطين للمواطنين، وتحديداً من الطائفة العلوية، مما أثار تذمراً لدى هؤلاء المواطنين.
ولكن فلول العصابة استخدموا تلك الأخطاء ذريعة للتحريض ضد الإدارة الجديدة، ومن ثم إشعال ثورة مضادة بقيادة اللصوص والقتلة أنفسهم، إلى أن تطورت الأحداث على النحو الذي آلت إليه في الأيام السابقة.
زجّت الفلولُ سوريا في مأزق أدى إلى منعطف حاد وخطير للغاية، من شأنه أن يدمر أحلام السوريين بمستقبلهم، الذي كان وجود الأسد عائقاً أمام تحقيقه.
وبعد رحيل الأسد، تبين أن عملية إسقاط النظام لم تكن متكاملة وكافية لإزاحة ذلك العائق، وكان لا بد من اقتلاع النظام من جذوره قبل الإعلان عن ولادة الدولة الجديدة.
وقد بات واضحاً بعد سلسلة الأحداث الأخيرة في الساحل السوري والمشهد الميداني المعقد، أن الرئيس أحمد الشرع يقف في مواجهة أصعب امتحان قبل أن يكمل ثلاثة أشهر من توليه منصب رئيس الجمهورية. فإلى جانب ملف “قسد” وتهديدات إسرائيل ومحاولاتها زرع الفتنة بين السوريين، والوضع الاقتصادي الصعب، والعقوبات التي لا تزال مفروضة على سوريا رغم سقوط المجرم الذي تسبب بفرضها، تأتي قضية الفلول لتزيد المشهد تعقيداً، وتجرّ القيادة الجديدة إلى استخدام السلاح من جديد ضد تلك الفلول. ولكن استخدام السلاح سيضع الدولة باستمرار في موقع الدفاع عن قرارها، ولا سيما في ضوء التشكيك والإشاعات والاتهامات التي تنتشر كالنار في الهشيم، ويستغلها الفلول لبناء مظلومية عليها.
غير أن الامتحان الأصعب يأتي من بعض الفصائل أو بعض الأفراد المحسوبين عليها، والمنتمين إلى الإدارة الجديدة، الذين يرتكبون انتهاكات تم الاعتراف بها رسمياً من قبل الحكومة. والمشكلة الأخطر ليست في نشر فيديوهات عن تلك الانتهاكات فحسب، بل في تبنّيها والافتخار بها من قبل مرتكبيها، وتصديرها على أنها أعمال بطولية. صحيح أن ثمة الكثير من التلفيق والمبالغة والفبركة، ولكن لا يمكن نفي الأصل الذي تستند إليه الفلول في تضخيمه، مما يضع القيادة في حرج شديد، ويمتحن قدرتها على معالجة هذه القضية، بحيث تصل إلى تحقيق العدالة التي وُعد الشعب السوري بها بجميع أطيافه. وتلك مهمة شديدة الدقة والتعقيد، في ظل الاضطرابات السائدة وضياع جزء كبير من الحقيقة وسط أصوات الرصاص وصوت الشائعات التي لا تتوقف.
وإذا أردنا أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، فلا بد من التأكيد على أن ما فعلته فلول النظام والمحرضون التابعون لهم، كان السبب الأساسي لتداعيات الأحداث التي وصلت إلى حالة التصعيد الأخيرة والنتائج الكارثية التي ترتبت عليها. فقد فسّرت تلك الفلول حالة التسامح التي أبدتها الحكومة الجديدة بالضعف، ووجدت فيها فرصة استثنائية لمحاولة استعادة السلطة التي فقدتها.
كانت المحاولة تهدف إلى الإطاحة بالدولة الجديدة في حال نجاحها، وفي حال فشلها، فهي ستنجح في إثارة الفوضى بالحد الأدنى، نكايةً بالسوريين وثورتهم ونصرهم. فالفلول هم ذاتهم أصحاب مقولة “الأسد أو نحرق البلد”، هؤلاء هم مشعلو الحرائق الذين لم يرتووا من حرائق الأعوام الأربعة عشر السابقة، ولا يزالون مصرين على حرق ما تبقى، وحرق مكتسبات الشعب، وحرق مستقبله.
في هذا السياق، لا بد من التذكير بأن تلك الانتهاكات لبعض الفصائل أو الأفراد المحسوبين على الدولة، ستقدم خدمة كبيرة لفلول النظام وروايتهم وأجندتهم، وستشارك في إرباك المشهد وتعقيد مهمة الدولة فيما يتعلق بقضية السلم الأهلي.
المطلوب اليوم هو سرعة محاسبة مرتكبي الانتهاكات، والتي يجب أن تكون متوازية مع محاربة الفلول.
لقد بات الاستقطاب والتحريض عنوانين أساسيين للمرحلة الحالية، وبدأت الفجوة تتسع بين الدولة السورية والكثير من أبناء الطائفة العلوية. وقد ظهر الرئيس الشرع في خطابين، يعيد من خلالهما التأكيد على السلم الأهلي، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، وتشكيل لجان عليا للمتابعة، وهذا هو بالضبط ما ينتظره السوريون. ولكن ترجمة تلك الأقوال إلى واقع وبأسرع وقت ممكن، هو ما سيقطع الطريق على الفلول ومناصريهم وداعميهم. وهنا، تبدو محاسبة مرتكبي الانتهاكات لا تقل أهمية عن ملاحقة الفلول، وأي تأخر في وقف الانتهاكات التي تتم ضد المدنيين الأبرياء من الطائفة العلوية وغيرها من المكونات السورية، سيلعب دوراً كبيراً في صب المزيد من النار على الزيت، وسيعرض مصداقية الرئيس للتشكيك، رغم كل ما أبداه من توازن وعدل وخطاب وطني واعٍ وحريص.
حين بدأ التحرك نحو حلب في العملية التي أطلق عليها “ردع العدوان”، لم يكن الكثيرون يعلمون من هم إدارة العمليات العسكرية. وسرعان ما تم الكشف عن أفراد تلك الإدارة وقيادتها، ليتضح أنها جبهة تحرير الشام ذاتها، التي لم يكن السوريون حينها يثقون بوطنيتها، ويعدونها مشروعاً إسلامياً بحتاً. الأمر الذي لم يجعلهم متحمسين لتلك العملية، بسبب خوفهم من فتح جبهة طاحنة مع قوات النظام وحلفائها من الإيرانيين والروس، وعودة الحرب التي لا يعرف أحد كم ستستغرق، ولا إلى متى قد تدوم، بكل ما تحمله من نتائج كارثية.
لقد خرج الأسد بعد اندلاع الثورة يبحث عن مبررات لقتل المتظاهرين والثوار، وتظاهر بأنه يفعل ما يمليه عليه واجبه الوطني.
ومع نجاح إدارة العمليات بتحرير حلب دون دماء، ومن ثم تقدمها إلى حماة فحمص، إلى أن وصلت إلى دمشق، باتت الهيئة تحتل موقعاً مختلفاً تماماً في وجدان السوريين. ومع دخولها إلى الساحل السوري دون انتقام أو ثأر، ازدادت ثقة السوريين بالإدارة، وباتت ليست المخلص فحسب، بل أيضاً الجهة الضامنة للعدالة واللحمة الوطنية. وبدأ النظر إلى الشرع على أنه البطل المحرر، والقادر على منع أنهار الدم والمذابح بحق العلويين، التي كانت متوقعة في حال سقوط النظام. وقد اعتبر السوريون دخول الساحل بلا دماء معجزة لا تقل شأناً عن معجزة التحرير.
لم يتأخر الرئيس بالخروج بعد سلسلة الأحداث الدامية، وقام بخطوات هامة تمثل المنهج النظري للحل، ولكن الاختبار الهام يكمن في آلية تطبيق هذا المنهج. فالمطلوب اليوم هو سرعة محاسبة مرتكبي الانتهاكات، والتي يجب أن تكون متوازية مع محاربة الفلول، وربما يجب إعطاؤها الأولوية، لأن ما يفعله مرتكبو الانتهاكات يمثل الأرضية الخصبة للفلول في استقطاب وتعبئة الشارع العلوي، وتجييشه، وتحريضه ضد إدارة الشرع.
لقد خرج الأسد بعد اندلاع الثورة يبحث عن مبررات لقتل المتظاهرين والثوار، وتظاهر بأنه يفعل ما يمليه عليه واجبه الوطني. وربما كان طرحه النظري حينها مقبولاً دولياً ومحلياً، ولكن أفعاله كانت تناقض خطابه. لا يمكن للإدارة الجديدة بحال من الأحوال أن تتشابه من قريب أو بعيد مع الأسد في الطريقة والنتائج. واليوم، تتجه أنظار السوريين للرئيس الشرع، منتظرةً خطوات وإجراءات عاجلة وعادلة وصارمة بحق المخربين جميعاً، وعلى رأسهم مرتكبو الانتهاكات.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية