جدول المحتويات
«نبض الخليج»
بما أن شهية الباحثين وقريحتهم مفتوحة في هذه الأوقات للحديث عن الإثنيات في سوريا، فثمة شعب يمثل جزءًا من هذا الموزاييك السوري، وهم في دائرة الضوء، وفي الوقت ذاته يحملون تراثهم الشفهي على هامش الحراك المجتمعي في سوريا منذ عقود، دون أن يكون لهم بداية معروفة. هل هم سوريون بالأصالة، أم بالمواطنة؟ الحديث هنا عن الغجر، وفي اللهجات المحلية يُعرفون بالقرباط أو النور، وبلهجة أهل الجزيرة “القرج” بالجيم المائلة إلى الشين.
أصل الغجر: هل هم عرق أم نمط حياة؟
لا يُعرف على وجه التحديد إلى أي مجموعة عرقية ينتمي الغجر، وما هو موطنهم الأصلي، ويعود ذلك إلى طبيعة حياتهم واعتمادهم على نقل تراثهم بالأسلوب الشفهي. إلا أن أغلب الباحثين يرجعون أصولهم إلى أواسط آسيا، حيث جاء في كتاب الغجر في العهد العثماني للكاتبين إيلينا ماروشياكوفا وفاسلين بوفوف أنهم قبائل هندوأوروبية جاؤوا من أواسط آسيا واستقروا في إقليم البلقان، الذي أصبح موطنهم الثاني.
أما المصادر التي تتحدث عن وجودهم في إسبانيا إبان الحقبة الأندلسية، فتعيدهم إلى جنوب شرقي أوروبا، مشيرةً إلى تأثيرهم في أغاني الموشحات عبر موسيقاهم المعروفة بالفلامنكو. وبعد محاكم التفتيش، تعرّضوا للاضطهاد، فخرجوا مع المسلمين العرب واليهود إلى أراضي الدولة العثمانية، وانتشروا في الأناضول، وبلاد الشام، والعراق، وإقليم البلقان مجددًا.
أما في كتب المؤرخين العرب، فقد عُرف الغجر بتسمية “الزط”، ونُسبوا كذلك إلى الهند. يقول ابن منظور في لسان العرب:
“الزط: جيل أسود من السند إليهم تنسب الثياب الزطية، وقيل: الزط إعراب جت بالهندية، وهم جيل من أهل الهند”. كما تحدثت كتب التاريخ، مثل تاريخ الطبري وابن كثير، عن ثورة قام بها الزط ضد الخليفة العباسي المأمون عام 205 هجري، وامتدت لسنوات حتى عهد الخليفة المعتصم بالله، الذي وجّه إليهم جيشًا فقضى عليهم وشتتهم، ما أجبرهم على الانتقال إلى مناطق أخرى.
الغجر في سوريا
لا يُعرف بالضبط متى دخل الغجر إلى سوريا، إلا أن نمط حياتهم القائم على الترحال الدائم يشير إلى أنّ وجودهم في سوريا يعود إلى فترة استجلابهم من أواسط آسيا خلال فترات الفتح الإسلامي، حيث بدأ يتبلور وجودهم بشكل واضح في العهد العثماني، وازداد وضوحًا منذ الاحتلال الفرنسي حتى الوقت الحالي.
ترى طائفة من الغجر أن أصولهم عربية تعود إلى الزير سالم بن ربيعة، حيث يدّعون أنهم يركبون الحمير أسوةً بنهاية حياة الزير سالم، ولذلك يقولون: “جدنا الزير.. ركبنا الحمير”.
ولأن تأريخهم شفوي، وحياتهم قائمة على الترحال، فلا يمكن إعطاء تصور دقيق عن هويتهم، أو قاموسهم اللغوي، أو عددهم، أو أماكن وجودهم. إلا أن الملاحظ عليهم أنهم يتطبعون ببعض صفات المجتمعات التي يعيشون فيها. فمثلًا، الغجر الذين يعيشون في الجزيرة السورية يتحدثون بلهجة قريبة من اللهجة الفراتية، مع احتفاظهم بلغة خاصة بهم يتحدثون بها فيما بينهم، لكنها لا تبدو موحدة ضمن معجم لغوي ثابت. كذلك، يتحدثون اللغة الكردية في المناطق ذات الكثافة الكردية، أما في ريفي حلب وحماة، فيتكلمون بلهجة قريبة من لهجات أهالي تلك المناطق.
أما عن عددهم، فهم في أحسن الأحوال لا يتجاوزون عشرات الآلاف. وبخصوص ديانتهم، فهم في الغالب مسلمون، دون أن يكون الدين عنصرًا ناظمًا لحياتهم وعباداتهم. وينقسمون إلى قسمين: مواطنون يحملون الجنسية السورية وتجري عليهم واجبات المواطنة، وقسم آخر من مكتومي القيد، حيث غضّت الدولة الطرف عن إلزامهم بتوثيق القيود المدنية.
مهن الغجر في سوريا
تعتمد بعض القبائل الغجرية على النساء في كسب المال، حيث تعمل المرأة في الكدية والاستجداء، وبيع الأدوات المنزلية، وضرب الفأل، والتنجيم، والوشم البدائي للنساء. أما في قبائل أخرى، فيشارك الرجال النساء في كسب المال، إذ يمتهنون تركيب الأسنان بطريقة بدائية، والعلاج الشعبي، والاستجداء أيضًا. إلا أنهم لا يعملون في التجارة أو الرعي أو الانخراط في المعامل أبدًا.
وقد انقرضت بعض هذه المهن تقريبًا بسبب الوعي المجتمعي بمخاطر تركيب الأسنان الغجرية، وضعف الإيمان بالفأل والتنجيم. ورغم تراجع هذه المهن في السنوات السابقة للثورة، إلا أن الغجر لم يعرفوا التمدّن، بل يرفضونه، حيث يعتبرون الاستقرار والعمل المستقر عيبًا، فيما تبقى الكدية والاستجداء وسيلتهم الأساسية لكسب المال.
كذلك، تمتهن النساء الغجريات الرقص والعزف على الطنبورة، بينما يعزف الرجال على الطبل والزُمّارة، حيث تُقام حفلات سمر في خيامهم. وتُسمّى الراقصة الغجرية باللهجة الفراتية “حجيّة”. ولعل من يذكر دور “فضة الغجرية”، الذي أدّته الفنانة أمل عرفة في المسلسل الحلبي خان الحرير، يمكنه تصور عمل الحجيّات الغجريات.
أزياء الغجر ورواياتهم الشفهية
يُعرف الغجر بحبّهم للألوان الفاقعة والمتنافرة في اللباس، فلا مانع عند المرأة الغجرية مثلًا من ارتداء الأخضر، والأحمر، والأصفر، والبنفسجي في زيّ واحد. ومع ذلك، يتأثرون بلباس المناطق التي يعيشون فيها، دون أن يكون هذا اللباس مقيدًا بمواسم طقسية أو اجتماعية خاصة بهم.
أما بخصوص الروايات الشفهية حول أصولهم، فلا يتفق الغجر على رواية واحدة. فبعضهم يقول إن أصولهم تعود إلى فنزويلا، ولديهم أقارب ما زالوا هناك، بينما ينسب آخرون أنفسهم إلى الأكراد، ويزعمون أنهم قادمون من كردستان إيران. في حين ترى طائفة منهم أن أصولهم عربية، وتعود إلى الزير سالم بن ربيعة، حيث يدّعون أنهم يركبون الحمير أسوةً بنهاية حياة الزير سالم، لذا يقولون: “جدنا الزير، ركبنا الحمير”.
ومن العادات الغريبة لدى بعض الغجر، أنهم يطفئون أضواء سراج الخيام ليلاً، ويزيلون الوتد الرئيسي لها لمدة أسبوع في السنة. وعند سؤالهم عن سبب ذلك، يجيبون بأن هذا الفعل أسوةً بالنساء التغلبيات، اللواتي أجبرهن جسّاس بن مرة على العيش في الخيام دون إشعال الأضواء أو النار بتاتًا.
الغجر: الحاضرون الغائبون
رغم شهرة الغجر الواسعة في سوريا، إلا أنهم لم يكونوا جزءًا من الحراك المجتمعي السوري، لا قبل الثورة ولا أثناءها، ولم يؤسسوا فعاليات أو منظمات تتحدث عن مظلوميتهم أو تطالب بحقوقهم، على عكس نظرائهم في بعض دول الجوار، مثل تركيا، حيث شكل الغجر منظمات وتجمعات تدافع عن حقوقهم، ويلعبون دورًا مهمًا في الانتخابات، وهم على أجندة الأحزاب السياسية.
أما الغجر السوريون، فلم يكن لهم فصل في رواية الظلم والاضطهاد في الحاضر السوري ولا في ذاكرته، ومع ذلك، فهم موجودون ككتلة بشرية لها خصوصيتها. وربما يكون من الضروري التعمق في خفاياهم، وتنظيم وجودهم، متى ما بادروا هم إلى ذلك.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية